تبييض النحاس
في خمسينيات القرن الماضي كان النحاس جزءاً اساسياً يحتل مكانة مميزة لدى الكثير من الجنوبيين، فكان يدخل احيانا في مهر العروس القروية الافقر حالاً، وكان بمثابة مادة نادرة يقتنيها بعض ميسوري الحال، الى ان غزا الالمنيوم و الاستناليس حتى تأثر استعماله الى درجة متدنية و تأثرت معه مهنة " التبييض " لتصبح هذه المهنة التي تعاقبت عليها الاجيال، نادرة، باستثناء بعض المسنين الذين عايشوها و لا زالت محط انظارهم حتى يومنا هذا.
أربعون عاماً مضت على المواطن حيدر صوفان 60 عاماً من بلدة جويا الجنوبية في مهنة التَبييض التي ورثها من احد اقربائه ، وهي المهنة التي اشتهر أهالي جويا باحترافها، ففاق عدد العاملين فيها سابقاً خمسين شخصاً، قبل مشارفتها على الزوال الآن.
هنا و على مقربة من ساحة البركة بمدينة بنت جبيل، اختار " المبيض " صوفان ان يجلس مع مساعد له، محاطاً بمجموعة أوان نحاسية. فهو قصد المدينة بهدف " تبييض اكثر من 25 آنية نحاسية " خلائين" من الحجم الكبير تم تجميعها من منازل البلدة ليباشر بمهنته مستجمعاً بعض الحطب الذي أشعله بمروحته اليدوية التي يستعملها للنفخ في النار كي تبقى ملتهبة، و اكثر من كيلوا غراما " من مادة " الشنادر" ( مواد من روح الملح و القصدير) لتبدأ مراحل التبييض ويؤتى بالوعاء النحاسي المراد تبييضه و يستعمل ملقط طويل لتحريك الوعاء فوق النار، فيسخن أولاً على النار، ثم يقوم المبيِّض بفركه ب مادة " الشنادر"بواسطة القطن يجول بها في قلب الوعاء, لتبدا في ازالة الأوساخ و يصار الى مسحه بقطعة قماشية، ويُغسل بالماء ويوضع تحت أشعة الشمس ليجف وبذلك تنتهي عملية تبييض النحاس.
يقول صوفان انه كان يقصد بنت جبيل قبل فترة الاحتلال في القرن الماضي حين كانت مهنة التبييض رائجة آنذاك: "كنا نُبَيض النحاس من قدور وصوانٍ وصحون وشوك وسكاكين بل وركوة القهوة وإبريق الشاي التي اندثرت من المطابخ اليوم واحتلت محلها ادوات " التيفال " . و يعتبر صوفان ان التبييض مفيد جداً للصحة و انه يزيل الرواسب التي تؤدي الى الامراض بشكل كامل، و يعتبر ان النحاس صحي اكثر من اي مواد اخرى احتلت مكانه اليوم. ويعتز صوفان بمهنته ويفتخر بها كونها باب الرزق الوحيد له، فهو يتقاضى ما بين الـ 50 الى 100 الف ليرة على كل قطعة نحاسية كبيرة سيتم تبييضها ويقلّ الأجر ويزيد عن ذلك حسب نظافة القدور.
يشار ان في بنت جبيل بعض المُبيَضين الذين اشتهروا خلال الفترة الواقعة بين السبعينيات و الثمانينيات لا يزال بعض كبار السن يتذكرون منهم ما كان يعرف بـ "ابو علي المُبَيض" من جويا و " ابو مهيوب " من كونين ، فـ هاذين الشخصين كانا يعملان بشكل دائم في هذه المهنة و يطرقون مع عدد من المبيضين، ابواب منازل البلدة يومياً للسؤال عما اذا كان هناك اي قطعة يراد تبييضها.
بقي بعض " المبيضين" و ربما آخرهم ، و بقيت الاواني النحاسية باشكالها المتعددة، و تحولت الى تحف تراثية توضع في الواجهات و زوايا المنازل تجلب الانظار لتذكر بـأهالي زمان، و في امكنة اخرى تراثية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق