«الحاج مجاهد».. آخر صانع طرابيش في القاهرة
قال: حرفتي تتطلب الذوق الرفيع.. وأزاولها وفاءا لتراث أجدادي
«العم مجاهد».. آخر صانع طرابيش في القاهرة
اقترن الطربوش كغطاء لرأس الرجل بالوقار وحسن الهندام، وانتشر اعتماره في عدد من البلدان العربية والإسلامية ابتداء من القرن الميلادي السادس عشر، كعلامة على التميز وعلو المكانة الاجتماعية. ومع أن القاموس العربي استوعبه بجوار «العمامة» و«القلنسوة» و«طاقية الصلاة»، فإنه ظل يحتفظ بسمات خاصة تميزه عنها.
في البداية عرف باسم «الشربوش»، ثم تطورت صناعته كما تطورت تسميته وبات معروفا باسم «الطربوش». وكان له شكل أسطواني خاص، ينتهي في أعلاه بزر من خيوط الحرير بألوان مختلفة تبعا لمكانة معتمريه، فالزر بالخيوط السوداء لأصحاب المكانة العالية، والصفراء والزرقاء لأصحاب الرتب العسكرية على تدرجها.
ومن الناحية التاريخية، يعتبر محمد علي باشا أول من شجع على تأسيس هذه الصناعة في مصر، حيث جلب عددا من صناع هذه المهنة من المغرب، وشيد لهم مصنعا ينتجون فيه الطرابيش، ولا تزال آثار هذا المصنع موجودة في مدينة فوّة، بمحافظة كفر الشيخ بشمال دلتا مصر، وكان إنتاجه مخصصا لأفراد الجيش المصري في ذلك العهد.
لكن سرعان ما انتشرت هذه الصناعة في مختلف أنحاء البلاد بين الباشوات والأفندية والطلبة ورجال الدين، بل إن الطريف أن الطربوش غدا من مستلزمات زي الرجال في المحافل الرسمية، إذ ما عاد يجوز أن يقف رجل أمام القاضي في المحكمة من دون وضع الطربوش على رأسه، وحتى الموظف أثناء دوامه الرسمي توجب عليه وضع الطربوش كمظهر من مظاهر الوقار.
الحاج محمد مجاهد، الذي يحمل على كاهله 40 سنة أمضاها في صناعة الطرابيش، لم يعش عصر الباشوات والبكوات، لكنه بدأ العمل في صناعة «الطرابيش» عندما كانت تصنع فقط لطلبة الأزهر الشريف، وكمنتج سياحي، وأيضا للاستعانة بها في تمثيل بعض الشخصيات التاريخية. وحاليا يعد الحاج مجاهد آخر العاملين في صناعة الطربوش، وذلك لأنه حريص على الحفاظ على مهنة أجداده وآبائه التي تربى عليها، وذاع اسم عائلته بها، ولا يريد أن ينساها الناس. وبالمناسبة يقدّر عمر دكانه المتواضع اليوم بأكثر من 200 سنة، ولو أغلقه فسينسى الناس أن الطرابيش كانت تصنع هنا.
يروي «الحاج مجاهد» أنه في عهد محمد علي، ومن جاء بعده «كان الطربوش يعبر عن مظاهر الأناقة والثراء، وكان يعتمره الرجال حتى ثورة يوليو (تموز) 1952، حين صدر مرسوم جمهوري بإلغاء اعتماره كجزء من الزي الرسمي كونه بات رمزا من رموز العهد السابق. وبالتالي، تراجع شأنه ومن ثم صناعته حتى اندثرت، وأصبح دكاني هو الوحيد الذي يصنعه لليوم، فالسياح عند زيارة حي الغورية يسألون عنه». ويضيف «الطربوش لليوم موجود في المتاحف المصرية وتحديدا في متحف الأزياء المصرية، وفي المتحف الحربي ضمن أزياء الجنود، وفي المتحف الإسلامي ضمن الأزياء الإسلامية، وكذلك في متحف المنيل وقصر محمد علي، وبعضها من صناعة أجدادي».
ويذكر «الحاج مجاهد» أنه في فترة من فترات الازدهار في مصر «كان الطربوش محركا للكثير من المطربين الشعبيين للغناء، خاصة لصاحب الطربوش المعوج، إذ كان الشباب يضعون الطرابيش ذات الحوائط المنخفضة ويضعونها على جنب من الرأس كنوع من (الروشنة) كما يقول شباب هذا الجيل. وكانت هناك طقطوقة شهيرة في الخمسينيات تقول (عوج الطربوش على جنب) و(يا أبو الطربوش أحمر)، أما كبار السن فكانوا يفضلون لطرابيشهم اللون الأحمر الغامق مع ضرورة احتفاظهم بوضعه في منتصف الرأس».
ويتابع «أيضا، كانت للسيدات عمامة خاصة مطرزة ذات ألوان متعددة من الأبيض واللبني والزهري، وكانت تسمى العمامة (القازدوفلية)، وهي في الأصل تركية ثم انتقلت إلى بلاد المغرب العربي ومنها إلى مصر، وهي تعد نوعا من أزياء النساء. وفي الغالب كن يرتدين أسفلها إيشاربا (لفاعا)، وكانت تعبر عن المكانة الاجتماعية لمن ترتديها بكمية التطريز ونوعية مادته. فالمرأة البسيطة كانت تستخدم الخرز، بينما الثرية أو ذات المكانة العالية كانت تستخدم الأحجار الكريمة واللؤلؤ. وكانت العروس تتزين باللون الأبيض، والبكر ترتدي اللون الزهري، وكان الفيروزي للمتزوجات».
ويسرح «الحاج مجاهد» في مفردات دكانه البسيط، ثم يقول «كنت أقف مع والدي منذ كنت في الثانية عشرة. ولأن صناعة الطرابيش ليست سهلة مثلما يتصور البعض، فهي تحتاج إلى مهارات خاصة وتدريب فني عال، استمرت فترة تدريبي 5 سنوات، حتى استطعت إتقان ضبط الطربوش ومقاسه على الزبون، والتشطيب النهائي له. أما ربطة الزر، وهي من الخيوط الحريرية التي تتدلى طوليا من الطربوش، فكانت تحتاج إلى مهارة بالغة لربطها على العنق حتى لا تنفك عقدتها، ولذا أخذت مني وقتا أطول، وبعد ذلك رحت أساعد والدي إلى أن توفاه الله فأصبحت مسؤولا عن المحل إلى يومنا هذا».
وعن مراحل تصنيع الطربوش، يقول مجاهد «هناك أنواع من الطرابيش، إلا أنها تتشابه في بعض مراحل صناعتها. فهناك إضافة إلى الطربوش المصري، الطربوش المغربي الذي يقل ارتفاعه عن المصري، وهناك التركي ذو الشكل المخروطي. ومراحل الصناعة متعددة إلا أن البداية واحدة لكل الأنواع، وتبدأ أول مرحلة بجدل الخوص على هيئة ضفائر متجاورة، ثم تلصق عليه خامة الجوخ بكميات معينة من النشا، ثم يصار إلى تفصيله في المرحلة التالية، وذلك بوضع الطربوش على الماكينة بمقاسات مختلفة، فلكل مقاس قالب معين من النحاس يسمى (المكبس) الذي يصل وزنه إلى 15 كغم، ويستخدم أيضا في كي الطربوش، وهناك نوعان من المكابس أحدهما يختص بطربوش الأفندي، والآخر بطربوش الأزهريين، ويوفر هذا المكبس درجة حرارة معينة تصل إلى 90 درجة مئوية، وبعدها يأخذ الطربوش هيئته النهائية، فتوضع له طاقية داخلية مصنوعة من شرائط الحرير يلصق عليها إطار من الجلد لحمايته من العرق، ثم يجري كيه وتعليقه».
ويتذكر «الحاج مجاهد» حال البيع أيام زمان واليوم، فيقول «الطرابيش كان لها عصر مزدهر، وكنا لا نجد وقتا للراحة لنتمكن من تلبية طلبات الزبائن. وكان للمحل باب خلفي يدخل منه كبار الزوار، ويومذاك كان سعر الطربوش الممتاز 80 قرشا، أما الآن فسعر الطربوش العادي 10 جنيهات، ويرتفع إلى 50 جنيها باختلاف درجة الجوخ المصري. لكن قد تمر أيام في الوقت الحالي لا نبيع فيها طربوشا واحدا. ولذا نصحني جميع جيراني في المحلات بتغيير النشاط لأننا كما يقولون (ما عدنا في عصر الباشوات.. والطربوش راح زمانه)، لكنني أعشق هذه الحرفة، وأعتبرها أمانة وتراثا ورثته عن والدي وأجدادي، ولو أنهيت العمل بها فلن يتذكر أحد أنه كانت هناك صناعة طرابيش في مصر».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق