الأحد، 13 نوفمبر 2011

كتاب المسح على الجوربين



المسح على الجوربين


تأليف علامة الشام
محمد جمال الدين القاسمي

ويليها
تمام النصح في أحكام المسح
للألبــاني

  قدَّم له                                                                                      
  العلامة أحمـد محمد شاكر                                                  
  حَقَّـقَّه  
  المحدّث ناصر الدين الألباني

                                            

      المكتب الإسلامي 

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة العلامة أحمد شاكر
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيرا مباركاً كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وختام النبيين وسيد ولد آدم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
  أما بعد : فإن أستاذنا عالم الشام الشيخ محمد جمال الدين القاسمي رحمه الله ألَّف رسالة نفيسة في المسح على الجوربين طبعت بدمشق سنة 1332 هـ وقد قرأتها وأفدت منها علماً جماً وروحاً قوياً في ذاك العهد البعيد حين كنا في مطلع الشباب متشوفين إلى العلم الصحيح علم الكتاب والسنة وكنا أحرص ما نكون على كتب السلف الصالح وكتب من نهج منهجهم من المتأخرين الذين يستمسكون بالهدي النبوي ويتبعون الدليل الصحيح دون تعصب لرأي وهوى ودون جمود على التقليد .
       وكان في مقدمة من سار على النهج القويم أستاذنا القاسمي – رحمه الله - . وقد زار مصر قبل وفاته وكنت ممن اتصل به من طلاب العلم ، ولزم حضرته ، واستفاد من توجيهه إلى الطريق السوي والسبيل القويم.
  وقد رغب صديقنا الحبيب السلفي الكبير الكريم الأخ السيد محمد نصيف – حفظه الله – أن يعيد طبعها بعد أن صارت نادرة الوجود وكثر الحرص على اقتنائها رغبة في إذاعة الفائدة منها . وطلب مني أن أعيد قراءتها وأكتب لها مقدمة . فأبنت له أني أحرص على تحقيق بعض الأحاديث التي استدل بها المؤلف رحمه الله وأن أزيد بعض الدلائل التي تؤيد ما ذهب إليه مما لم يكن بين يديه حين ألف رسالته .
  والأدلة الأصلية التي بنى المؤلف عليها رسالته ثلاثة أحاديث : حديث ثوبان ، وحديث المغيرة بن شعبة ، وحديث أبي موسى الأشعري . فكتبت هذه الكلمة أبين فيها الدلائل على صحة هذه الأحاديث الثلاثة . وزدت عليها دليلاً رابعاً ، وهو حديث أنس بن مالك .
  وقد اجتهدت فيما كتبت ما استطعت . وأسأل الله التوفيق والعون والسداد . إنه سميع الدعاء .
1 – أما حديث ثوبان : فهو في مسند الإمام أحمد ( ج 5 ص 277 طبعة احلبي ) [1]رواه عن يحي بن سعيد عن ثور عن راشد بن سعد عن ثوبان ، وكذلك رواه أبو داود ( ج 1 ص 56 من عون المعبود ) ، عن الإمام أحمد بن حنبل بهذا الإسناد . وكذلك رواه الحاكم في المستدرك ( ج 1 ص 169 ) ، من طريق الإمام أحمد ، وصححه على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي .
  وثور هو بن يزيد الكلاعي الحمصي وهو ثقة معروف . وراشد بن سعد الحمصي : ثقة أيضاً ترجم له البخاري في التاريخ الكبير ( 2/1/266-267 ) فلم يذكر فيه جرحاً وهذه أمارة توثيقه عنده . وترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 1/2/483 ) وروى توثيقه عن يحي بن معين وأبي حاتم .
  وأما تعليل الإمام أحمد هذا الحديث بالانقطاع بين راشد وثوبان – فقد نقل مثله ابن أبي حاتم في المراسيل ( ص22) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه ، قال : ( راشد بن سعد لم يسمع من ثوبان ) ولكن يعارض هذا أن البخاري جزم في التاريخ الكبير بأنه سمع منه فقال في ترجمته : ( سمع ثوبان ويعلى بن مرة) . وكفى بهذا حجة في إثبات سماعه من ثوبان .
  ولم تبق لنا حاجة فيما تكلفه المؤلف – رحمه الله – من ترجيح الاحتجاج بالروايات المنقطعة . لأن الراجح عند أكثر أهل العلم بالحديث أن الحديث الذي فيه انقطاع يكون حديثاً ضعيفاً لا تقود به الحجة . أما هذا الحديث فقد تبين أنه حديث متصل صحيح الإسناد .
2 – وأما حديث المغيرة بن شعبة : فهو في مسند الإمام أحمد ( ج 4 ص 252 طبعة الحلبي ) . ورواه أيضاً أبو داود ( ج 1 ، ص 61-62 من عون المعبود ) والترمذي ( رقم : 99 ج 1 ص 167 بشرح أحمد محمد شاكر = ج 1 ص 100 من شرح المباركفوري ) وابن حبان في صحيحه ( ج2 ص550 من مخطوطة الإحسان المصورة عندي ) وابن ماجه ( رقم : 559 ص 185 من طبعة فؤاد عبد الباقي ) وابن حزم في المحلى ( ج2 ص 81 – 82 ) ، والبيهقي في السنن الكبرى ( ج 1 ص 283 – 284 ) كلهم [2] من طريق سفيان الثوري ، عن أبي قيس عن هُزيل بن شُرَحبيل عن المغيرة بن شعبة . وقال الترمذي : ( هذا حديث حسن صحيح ) . وقال أبو داود بعد روايته : ( وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدِّث بهذا الحديث ، لأن المعروف عن المغيرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ) . وكلام العلماء الذين أرادوا إعلال هذا الحديث يدور كله حول كلام عبد الرحمن بن مهدي هذه .
  والحديث صحيح وإسناده كلهم ثقات .
  أبو قيس : هو الأودي ، واسمه ( عبد الرحمن بن ثروان ) – بفتح الثاء المثلثة وسكون الراء – وهو ثقة ، وثقه ابن معين ، وقال العجلي : ( ثقة ثبت ) ، وأخرج له البخاري في صحيحه . وأما قول الإمام أحمد : ( يخالف في حديثه ) – فما هو بجرح له في الثقة به .، إنما يريد به تعليل هذا الحديث ، بأنه خالف غيره من الرواة . وسيأتي بيان أن هذه المخالفة غير قادحة ، وأنها لا تصلح تعليلاً للحديث .
  و ( هُزَيْل بن شرحبيل الأودي ) : تابعي قديم ، يقال إنه أدرك الجاهلية ، وهو ثقة دون خلاف . مترجم في طبقات ابن سعد ( 6 : 122 ) ، والكبير للبخاري ( 4/2/245 ) ، والإصابة ( 6 : 303 ) .
  وقد تكلم الإمام ابن القيم في شأن هذا الحديث وهذه المسألة كلاماً قوياً جيداً ، وإن كنت لا أوافقه على تضعيف حديث المغيرة هذا – فقال في تعليقه على مختصر المنذري ( تهذيب السنن ج 1 ص 121 – 122 ) : ( وقال النسائي ما نعلم أحداً تابع هزيلا على هذه الرواية . والصحيح عن المغيرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين .  وقال البيهقي : قال أبو محمد – يعني يحى بن منصور - : رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر ، وقال : أبو قيس الأودي وهزيل بن شرحبيل لا يحتملان هذا ، مع مخالفتهما جملة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة فقالوا : مسح على الخفين ، وقال : لا يُترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس وهزيل . قال : فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس الدغولي ؟ فسمعته يقول : سمعت علي بن مخلد بن سنان يقول : سمعت أبا قدامة السرخسي يقول : قال عبد الرحمن بن مهدي : قلت لسفيان الثوري : لو رجل حدثني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منه . فقال سفيان : الحديث ضعيف أو واهٍ أو كلمة نحوها . وقال عبد الله بن أحمد : حدثت أبي بهذا الحديث فقال أبي ليس يروى هذا إلا من حديث أبي قيس . قال : أبَى عبد الرحمن بن مهدي أن يحدث به يقول : هو منكر . وقال علي بن المديني : حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة ، ورواه هزيل بن شرحبيل عن المغيرة إلا أنه قال : ومسح على الجوربين ، وخالف الناس . وقال الفضل بن عتبان : سألت يحى بن معين عن هذا الحديث ؟ فقال : الناس كلهم يروونه : على الخفين غير أبي قيس . قال ابن المنذر : يروى المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : علي ، وعمار ، وأبي مسعود الأنصاري ، وأنس ، وبن عمر ، والبراء ، وبلال ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وسهل بن سعد ، وزاد أبو داود : وأبو أمامة ، وعمرو بن حريث ، وعمر ، وابن عباس . فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً . والعمدة في الجواز على هؤلاء رضي الله عنهم ، لا على حديث أبي قيس . مع أن المنازعين في المسح متناقضون ، فإنهم لو كان هذا الحديث في جانبهم لقالوا : هذه زيادة ، والزيادة من الثقة مقبولة ، ولا يلتفتون إلى ما ذكروه هنا من تفرد أبي قيس . فإذا كان الحديث مخالفاً لهم ، أعلُّوه بتفرد راويه ولم يقولوا زيادة الثقة مقبولة ، كما هو موجود في تصرفاتهم ؟؟ والإنصاف أن تكتال لمنازعك بالصاع الذي تكتال به لنفسك فإن في كل شيء وفاء وتطفيفاً . ونحن لا نرضى هذه الطريقة ولا نعتمد على حديث أبي قيس . وقد نصَّ أحمد على جواز المسح على الجوربين وعلَّل رواية أبي قيس . وهذا من إنصافه وعدله رحمه الله . وإنما عمدته هؤلاء الصحابة وصريح القياس ، فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه ) .
  هذا نص كلام ابن القيم رحمه الله . ونحن نخالفه في تعليل حديث أبي قيس عن هُزيل . لأن رواية أصحاب المغيرة عن المغيرة في هذا الحديث المسح على الخفين لا تنفي صحة رواية هزيل بن شرحبيل عنه المسح على الجوربين . فهذه واقعة وهذه واقعة .
  وقد قلت في شرحي للترمذي ( ج 1 ص 168 ) : ( الصواب صنيع الترمذي في تصحيح هذا الحديث ، وهو حديث آخر غير حديث المسح على الخفين . وقد روى الناس عن المغيرة أحاديث المسح في الوضوء ، فمنهم من روى المسح على الخفين ، ومنهم من روى المسح على العمامة ، ومنهم من روى المسح على الجوربين وليس شيء منها بمخالف للآخر ، إذ هي أحاديث متعددة ، وروايات عن حوادث مختلفة . والمغيرة صحب النبي صلى الله عليه وسلم نحو خمس سنين ، فمن المعقول أن يشهد من النبي صلى الله عليه وسلم وقائع متعددة في وضوئه ويحكيها ، فيسمع بعض الرواة منه شيئاً ، ويسمع غيره شيئاً آخر . وهذا واضح بديهي ) .
  وأزيد على ذلك : أن العلماء جمعوا بين الأحاديث التي صحت في صفة صلاة الكسوف على أوجه متعددة – بأن هذا اختلاف وقائع لا اختلاف رواية . مع علمهم بأن وقوع الكسوف والخسوف قليل . فأولى أن يجمع في ذلك بصفة الوضوء الذي يتكرر كل يوم مراراً . كما هو بديهي .
  وقد تكلف العلامة المباركفوري في شرحه للترمذي ( ج 1 ص 100 – 102 ) في تضعيف هذا الحديث تكلفاً شديداً يراه المنصف المدقق غير سديد . ومن أعجب ما صنع أنه ردّ على القائلين بأن رواية هزيل هذه زيادة من ثقة فتقبل ، فقال : ( فيه نظر ، فإن الناس كلهم رووا عن المغيرة بلفظ : مسح على الخفين . وأبو قيس يخالفهم جميعاً فيروي عن هزيل عن المغيرة بلفظ : مسح على الجوربين والنعلين ، فلم يزد على ما رووا ، بل خالف ما رووا . نعم ، لو روى بلفظ : مسح على الخفين والجوربين والنعلين – لصح أن يقال إنه روى أمراً زائداً ) !
  هكذا قال ، وهي انتقال نظر ، فليس المراد أنه روى زيادة في لفظ الحديث ، بل أراد القائلون بأنها زيادة : أنه روى حكماً آخر زائداً على ما رواه غيره ، فرووا هم المسح على الخفين ، وروى هو المسح على الجوربين . ولم ينف رواية  المسح على الخفين . فروايته على الحقيقة زيادة على روايات غيره . وهذا واضح .
  ثم إن الحكم على رواية هذا الحديث بتخطئة الرواة الثقات حكم دون دليل كما بينَّا . وقد تابعه على روايته هذه عمل الصحابة الذين حكى ابن القيم الحجة بعملهم . فهو لم يرو حكماً شاذاً مخالفاً لم يقل به أحد ، بل روى عملاً ثبت أن الصحابة هؤلاء عملوا به وأخذوا بحكمه .
3 – وأما حديث أبي موسى الأشعري : فهو في سنن ابن ماجه ، برقم : 560 ( طبعة فؤاد عبد الباقي ) . وقد أعلُّوه بعلتين :
  أولاهما : أن راوِيَهُ ( عيسى بن سنان الحنفي الفلسطيني ) ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما . ولكن ذكره ابن حبان في الثقات ، فمثل هذا يحتمل ضعفه ويكون حديثه أقرب إلى الحسن منه إلى الضعيف . خصوصاً وأن البخاري سكت عن هذا الحديث ، ولو كان ضعيفاً عنده لأبان عن ذلك ، كما سيأتي .
  وثانيتهما : أن التابعي راويه عن أبي موسى ، وهو ( الضحاك بن عثمان بن عَرْزَب ) لم يسمع من أبي موسى . وهذه دعوى عريضة ، ذكرها ابن أبي حاتم عن أبيه في ترجمة الضحاك هذا (2/1/459) ، فقال : ( روى عن أبي موسى الأشعري . مرسل ) ؟ ولكن البخاري – وهو الحجة في هذا – ترجمه في الكبير (2/2/334) ، وقال : ( سمع أبا موسى ) . ثم أشار إلى هذا الحديث في ترجمته ، إشارته الموجزة كعادته . وسكت عنه ، ولم يذكر له علة . فدلَّ على أنه حديث مقبول عنده على الأقل .
                                      *        *        *
  وبعد : فإن هناك حديثاً آخر عن أنس بن مالك صريحَ الدلالة صحيح الإسناد :
  فروى الدولابي في الكنى والأسماء ( ج 1 ص 181 ) ، قال : ( أخبرني أحمد بن شعيب ، عن عمرو بن علي ، قال : أخبرني سهل بن زياد أبو زياد الطحان ، قال : حدثنا الأزرق بن قيس ، قال : رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه ، ومسح على جوربين من صوف ، فقلت : أتمسح عليهما ؟ فقال : إنهما خفان ، ولكنهما من صوف ) .
  وهذا إسناد صحيح . أحمد بن شعيب : هو النسائي الحافظ صاحب السنن . عمرو بن علي : هو الفلاَّس ، الحافظ الحجة . أبو زياد سهل بن زياد الطحَّان : ثقة ، ترجمه البخاري في الكبير ( 2/2/103-104) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ( 2/1/197 ) – فلم يذكرا فيه جرحاً ، فهو ثقة عندهما . وذكره ابن حبان في الثقات ، كما في لسان الميزان ( ج 3 ص 118 ) . وذكر أن الأزدي قال فيه :( منكر الحديث ) ، دون بيان سبب الجرح . والأزدي ينفرد بجرح كثير من الثقات ، فلا يؤبه لتجريحه إذا تفرد به . والأزرق ابن قيس : تابعي ثقة مأمون . مترجم في التهذيب .
  وهذا الحديث موقوف على أنس من فعله وقوله . ولكن وجه الحجة فيه أنه لم يكتف بالفعل ، بل صرح بأن الجوربين ( خفان ولكنهما من صوف ) . وأنس بن مالك صحابي من أهل اللغة قبل دخول العجمة واختلاط الألسنة . فهو يبين أن معنى ( الخف ) أعم من أن يكون من الجلد وحده ، وأنه يشمل كل ما يستر القدم ويمنع وصول الماء إليها[3] . إذ أن الخفاف كانت في الأغلب من الجلد فأبان أنس أن هذا الغالب ليس حصراً للخف في أن يكون من الجلد ، وأزال الوهم الذي قد يدخل على الناس من واقع الأمر في الخِفاف إذ ذاك . ولم يأتِ دليل من الشارع يدل على حصر الخفاف في التي تكون من الجلد فقط .
  وقول أنس في هذا أقوى حجة ألف مرة من أن يقول مثله مؤلف من مؤلفي اللغة ، كالخليل والأزهري والجوهري وابن سيده وأضرابهم . لأنهم ناقلون للغة ، وأكثر نقلهم يكون من غير إسناد ، ومع ذلك يحتج بهم العلماء . فأولى ثم أولى إذا جاء التفسير اللغوي من مصدر أصلي من مصادر اللغة وهو الصحابي العربي من الصدر الأول ، بإسناد صحيح إليه .
  وقد أشار الإمام ابن القيم إلى مثل هذا المعنى – إن لم يكن صريحاً تماماً – فيما نقلناه عنه آنفاً ، من قوله : ( وإنما عمدته هؤلاء الصحابة وصريح  القياس ، فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر يصح أن يُحال الحكم عليه ) .
  فجعل ابن القيم أن ( الجوربين ) مقيسان على ( الخفين ) قياساً جلياً ، ( من غير فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه ) .
  ولكن المعنى في حديث أنس أدقّ . فليس الأمر قياساً للجوربين على الخفَّين بل هو : أن الجوربين داخلان في مدلول كلمة ( الخفين ) بدلالة الوضع اللغوي للألفاظ على المعاني . والخفان ليس المسح عليهما موضع خلاف ، فالجوربان من مدلول كلمة ( الخفين ) ، فيدخلان فيهما بالدلالة الوضعية اللغوية .
    وقد ثبت – من غير وجه – عن أنس : أنه مسح على الجوربين . فهو يؤيد رواية الدولابي التي ذكرنا .
وانظر المحلى لابن حزم بتحقيقنا (ج2ص84-85) . والحمد لله رب العالمين .
  القاهرة يوم الجمعة 6 جمادى الآخرة 1377 هـ

                                                                                      كتبه
                                                                               أحمد محمد شاكر
                                                                               عفا الله عنه بمنه      















بسم الله الرحمن الرحيم
  مقدمة المؤلف
  الحمد لله الذي لم يجعل على المتقين من حرج في الدين ، وأراد بهم اليسرَ ولم يرد بهم العسر وهو أرحم الراحمين . والصلاة والسلام على نبي الرحمة ، المبعوث بالحنيفية السمحة السهلة ، المرفوع عنها الإصر والأغلال التي كانت على الغابرين . سيدنا محمد خاتم النبيين ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين .
  أما بعد فقد سُئلتُ أكثر من مرتين ، عن حكم المسح على الجوربين ، وذُكِر لي ما دعت إليه الحاجة من إظهار الحكم في هذه المسألة وإشاعته والصدع بإفادته للأمة وإبانته . ومن قبل رثى بعض أساتذة المدارس لما تعانيه الأطفال والبنات في الوضوء أيام الشتاء من مشقة غسل الرجلين وما ينالهما من الألم ببرودتهما ، وكذلك ما تقاسيه الفقراء في الشتاء من جراء غسلهما . وأُخبرت بأن كثيراً من أولاد المدارس – وكذلك الفتيان والنساء – لا يصلون أيام الشتاء ن لما يقاسون من ألم غسل الرجلين ، بما تصاب به القدمان في الشتاء من مرض التورم ( المسمى عند العامة : التثليج ) وبقشف الجلد [4] والتقرُّح . وكذلك قصَّ عليَّ ما يناله المسافر في  السفن البحرية ، والمراكب البخارية ، من المشقة لو أراد غسل الرجلين ، وأن كثيراً من ركابهما قد لا يصلون لصعوية غسلهما في ذينك الموضعين .
  ذُكر لي كلُّ ذلك وتُليَت عليَّ عدة قصص ، على أن كثيراً من الناس يتركون الصلاة لنبذهم التفقه في الدين ، وجهلهم برخص الشرع المتين .
  وقيل لي لو أنهم يعلمون رخصة تيسِّر لهم الأمر ، وتَرفع عنهم الإصر لما وجدوا عذراً في ترك الصلاة التي هي من أعظم دعائم الإيمان ، وأشهر شعائر الإسلام .
  فكنت أجيب السائلين بأن دين الإسلام ، تكفَّل بما فيه اليسر ورفع الحرج في سائر الأحكام ، وقد فتح من أبواب التسهيل في الأمور ما لا يوجد أيسر منه ، ولذلك كان رحمة وشفاء لما في الصدور . وأقول لهم : بَلْهَ ما بُنِيَت عليه هذه الملَّة الغراء من اليسروالسماحة ، وكون أساس دينها رفع الحرج واتساع الأمر إذا ضاق ، فإن المسألة ( مسألة المسح على الجوربين ) معروفة عند جميع الفقهاء مشهورة ، منصوص عليها في الأحاديث المأثورة ، وهي مذهب الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ، ورواة الحديث أجمعين . فلا عذر لأحد في الجهل بها ، وأي متفقه لا يهتم بتعلمها وطلبها وهي من الفروع الفقهية المهمة  الواجب تعلمها على الأمة ولا علم إلا بالتعلُّم ، ولا فقه إلا بالتفهم ومن لم يتطلب العلم ولم يجدَّ للفقه والفهم ففي ظلام دامس ، وضلال طامس ، فلا هداية إلا بنور الفقه وعلم اليقين ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) .
  ثمَّ رُغِب إليَّ أن أجمع في هذه المسألة كتاباً لطيفاً أحشر إليه الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والموقوفة على الصحابة رضوان الله عليهم ، والمأثورة عن التابعين ، ومذاهب الأئمة المشهورين . فاستخرت الله تعالى واستعنته ، وبذلت الجهد في التنقيب عن المروي في هذا الباب ، واستقرأت معظم ما قاله الأئمة . ثم جمعت في هذه الورقات نخب ما طالعته واستقرأته ، فلله الحمد في الأولى والآخرة ، وهو ولي الصالحين .    



المسح على الجوربين
بيان أنَّ مردَّ الأحكام الشرعية إلى الكتاب الكريم لأنه أصل الأُصول
  اعلم أن أصل كل حكم شرعي هو الكتاب الكريم ، لأنه أصل الأصول ومأخذ المآخذ وكليّ الكليات ، فلا يمكن لحكم ما من الأحكام الشرعية إلا وأن يرجع إليه ويصدر منه ، حتى إن السنة النبوية أصلها كتاب الله تعالى لأنها تفصيل لمجمله ، وإيضاح لمبهمه وطريق من طرق الاستنباط منه . فكل سنَّة بحث عن أًصلها باحث خبير فإنه يجدها في كتاب الله تعالى ، مدلولاً عليها إما من نص آية أو ظاهرها أو مفهومها أو إشارتها أو عمومها ، إلى غير ذلك من وجوه الاستنباط التي يعلمها المجتهد ، ويذكر بعضها في فنِّ الأصول .
  إذا علمتَ ذلك فمسألتنا هذه – مسألة المسح على الجوربين – أصلها في الكتاب الكريم إما من عموم المسح في آية الوضوء ، وإما من عمومات أخَر .
  فأما ( العموم الأول ) فسنده قراءة الجرِّ في قوله تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)(المائدة: من الآية6) فإن ظاهرها أن الفرض في الرجلين هو المسح ، كما روي ذلك عن ابن عباس وأنس وعكرمة والشعبي وقتادة وجعفر الصادق وعلماء سلالته رضي الله عنهم أجمعين . فعلى مذهب هؤلاء الأئمة يكون مفاد الآية وجوب المسح على الرجلين مباشرة أو بما عليها من خُف أو جورب أو تساخين [5] فيظهر كون الآية مأخذاً للسنة على هذه القراءة .
  وأما على قول الجمهور : إن فرض الرجلين هو الغسل ، وصرف قراءة الجر إلى قراءة النصب – بالأوجه المعروفة في مواضعها – فيكون مأخذ مسح الجوربين من الكتاب العزيز ( عمومات أخر ) في آياته ، مثل آية : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ )(الحشر: من الآية7) ،وآية : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )(الأحزاب: من الآية21) وآية : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي )(آل عمران: من الآية31) ، وآية : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(المائدة: من الآية92) ونظائرها مما لا يحصى . وقد تعدد وجوه الاستنباط ، ويترجح بعضها بقوة التفرع والارتباط ، ولا يخفى وجوه التراجيح على الراسخين ، والله الموفق والمعين .


     بيان الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الجوربين والتساخين
  اعلم أن أحاديث هذا الباب منها ما يستفاد جواز المسح على الجوربين من عمومه ، ومنها ما يستفاد من خصوصه .
  فمن ( النوع الأول ) وهو ما يستفاد من عمومه وإطلاقه جواز المسح على الجوربين حديث ثوبان رضي الله عنه ، قال الإمام أحمد رحمه الله في مسنده [6] : في مسند ثوبان رضي الله عنه : حدثنا يحي بن سعيد عن ثور عن راشد بن سعد عن ثوبان قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد ، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد ، فأمرهم بأن يمسحوا على العصائب والتساخين ) رواه أبو داود في ( سننه ) .
  قال العلامة ابن الأثير في ( النهاية ) : ( العصائب ) هي العمائم ، لأن الرأس يعصب بها ،و(التساخين )
كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما ، ولا واحد لها من لفظها .
  أقول : رجال هذا الحديث ثقات مرضيون ، كما يعلم من مراجعة أسمائهم من كتب الرجال .
  ومن ( النوع الثاني ) وهو ما ورد نصاً في الجوربين حديثا المغيرة وأبي موسى .
( فأما حديث المغيرة ) فرواه الإمام أحمد في ( مسنده ) – في مسند الكوفيين – في حديث المغيرة ابن شعبة قال : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي قيس عن هُزَيْل [7] بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة ( أن رسول الله توضأ ومسح على الجوربين والنعلين ) .
  ورواه أبو داود في ( سننه) في باب ( المسح على الجوربين ) . وأخرجه الترمذي وابن ماجه كلاهما في ( باب المسح على الجوربين والنعلين ) .
  وأما ( حديث أبي موسى ) فرواه ابن ماجه في ( سننه ) قال : حدثنا محمد بن يحي حدثنا معلى بن منصور وبشر بن آدم حدثنا عيسى بن يونس عن عيسى بن سنان عن الضحاك ابن عبد الرحمن بن عَرْزَب [8] عن أبي موسى الأشعري ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين ) .

ذكر ما ورد على هذه الأحاديث الثلاثة من الشبه والجواب عنها
  الشبهة الأولى  :
     قالوا : في إسناد حديث ثوبان ( الأول ) راشد بن سعد عن ثوبان ، وقد قال الخلال في علله : إن أحمد بن حنبل قال : لا ينبغي أن يكون راشد بن سعد سمع من ثوبان لأنه مات قديماً .أ.هـ . أي فيكون معللاً بالانقطاع لسقوط راوٍ بين راشد وثوبان .
  و( الجواب ) أن هذا إنما يأتي على مذهب من يشترط في الاتصال ثبوت السماع . وقد أنكر الإمام مسلم ذلك في مقدمة صحيحه إنكاراً شديداً ورأى أنه قول مخترع ، وأن المتفق عليه أن يكفي للاتصال إمكان اللقاء والسماع [9] ، وعليه فالانقطاع في الحديث غير مقطوع به ، ويرجع الأمر إلى رجال سنده ، فإذا كان رجاله ثقات كان صحيحاً أو حسناً جيداً صالحاً للاحتجاج به ، ولذا أخرجه الإمام أحمد في ( مسنده ) معوِّلاً على الاحتجاج به وتبليغه سنة يعمل بها .
  وخرَّجه أيضاً أبو داود وسكت عليه ، وما سكت عليه فهو صالح للاستدلال به ، إذ لا جرح في رواته ولا علة ظاهرة فيه فاستوفى شروط الحُسْن . والحَسَن كالصحيح في الاحتجاج به والعمل بما فيه . وبالجملة فقصارى أمر هذا الحديث أن يكون حسناً وصالحاً ويكفي ذلك .
  على أن مجرد الانقطاع ليس قادحاً ، فقد وقع في مسلم بضعة عشر حديثاً منقطعة وإن تبين وصلها من وجه آخر ، لأن المقطوع الثقة ليس كغيره ، ولذلك قبل من المراسيل مراسيل الثقات كما تقرر في موضعه .[10]
  وتسميتنا لذلك بالحسن جرياً على قول بعضهم – كما في التدريب – أن الحسن هو الذي فيه ضعف قريب محتمل . وعلى قول البغوي : أن ما في السنن من الحِسان ، فإن هذين القولين متجهان فيما نراه وإن اشتهر تفسير الحسن بغيرهما .
  قال الإمام النووي في ( التقريب ) : وقد جاء عن أبي داود أنه يذكر في ( سننه ) الصحيح وما يشبهه ويقاربه ، وما كان فيه وهن شديد بيَّنه ، وما لم يُذكر فيه شيء فهو صالح . ( قال النووي ) : فعلى هذا ما وجدنا في كتابه مطلقاً ولم يصححه غيره ولا ضعفه فهو حسن عند أبي داود ، لأن الصالح للاحتجاج لا يخرج عنهما ، بل قال ابن رشيد : إن ما سكت عليه ( أبو داود ) قد يكون عنده صحيحاً وإن لم يكن كذلك عند غيره [11] انظر التدريب .
  وبعد فإن رجال حديث ثوبان كلهم ثقات مرضيون كما يعلم من مراجعة أسمائهم من طبقات الرجال ، وقد عرفت الجواب عن شبهة الانقطاع فيه فقوي وحسن وصلح للاحتجاج به . والحمد لله .
الشبهة الثانية  :
بحث بعضهم بأن الدليل من هذا الحديث أخص من الدعوى ، لأن الحديث يدل على جواز المسح على التساخين في حالة البرد خاصة ، لأنه جواب السائل في تلك الحالة .
 و( الجواب ) أنه تقرّر في الأصول أن ( اللفظ العام الوارد على سبب خاص يحمل على عمومه ولا يخص بالسبب الذي ورد فيه ) . قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي : والدليل عليه هو ( أن الحجة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم دون السبب ، فوجب أن يعتبر عمومه ) . وحاصل القاعدة في هذا أن ( اللفظ الذي يستقل بنفسه يعتبر حكمه ، فإن كان خاصاً حمل على خصوصه ، وإن كان عامَّاً حمل على عمومه ، ولا يخص بالسبب الذي ورد فيه ) . وما يقال في العام يقال في المطلق ، لاشتراكهما في الأحكام كما تقرر في الأصول وتقرر أيضاً أن ( ترك الاستفصال في حكاية الحال ينزل منزلة العموم في المقال ) .
ولا يقال : إن الفعل المثبت لا عموم له كما أطلقه الأصوليون ، لأنه يقال : إن إطلاقهم مقيد بغير نحو أمر أونهي ، لأن هذا ليس حكاية لفعله حتى يقال : إنه لم يقع إلا على صفة واحدة ، بل حكاية لصدور أمر بشيء أو نهي عنه عامَّاً في أقسامه ألبتة كما اختاره ابن الحاجب ، وبسطه في المطوَّلات . ثم إن ما ورد من مسحه صلوات الله عليه على الجوربين وهما من التساخين – غير مقيد بحالة لا أمراً منه ولا فعلاً ، وكذا ما صحَّ من مسحه صلوات الله عليه في الوضوء على عمامته – وهي من العصائب – غير مقيَّد بحالة دون أخرى ، وسيأتي مزيد لهذا البحث إن شاء الله .
الشبهة الثالثة  :
في حديث المغيرة ( الثاني ) قالوا : إن فيه شذوذاً ، بيانه أن المروزي قال : إن الإمام أحمد ذكر أبا قيس – أحد رواته – فقال : ليس به بأس ، أنكروا عليه حديثين : حديث المغيرة في المسح ، فأما ابن مهدي فأبى أن يحدث به ، وأما وكيع فحدَّث به . وقال أبو داود في سننه : كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدِّث بهذا الحديث لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين . أ . هـ . قال السندي : فكان يراه ضعيفاً شاذَّاً ، و( الشاذ ) : ما رواه المقبول مخالفاً لمن هو أولى منه .
و( الجواب ) من وجوه : ( الأول ) أنَّ تضعيفه بما ذكر يعارضه تصحيح الترمذي له ، فقد قال بعد تخريجه له في سننه : هذا حديث حسن صحيح ، وهو قول غير واحد من أهل العلم . وتصحيح الترمذي مقدَّم على تضعيف غيره ، لأن الترمذي من الطبقة التي تأخرت عن تلك ووقفت على كل ما قيل فيه ورأت أن الحق في تصحيحه ، وكذا صححه ابن حبان [12] وهو ممن استقرأ وسبر أيضاً  [13] .
( الثاني ) قال العلامة المحقق علاء الدين المارديني [14] في ردِّ قول البيهقي ( أبو قيس الأودي وهزيل لا يحتملان مع مخالفتهما الأجلَّة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة فقالوا : مسح على الخفين ) ما مثاله : هذا الخبر أخرجه أبو داود وسكت عنه ، وصححه ابن حبان ، وقال الترمذي : حسن صحيح . وأبو قيس عبد الرحمن بن ثروان وثَّقه ابن معين وقال العجلي ثقة ثبت ، وهزيل وثَّقه العجلي وأخرج لهما معاً البخاري في صحيحه ، ثم إنهما لم يخالفا الناس مخالفة معارضة بل رويا أمراً زائداً على ما رووه بطريق مستقل غير معارض ، فيحمل على أنهما حديثان ، ولهذا صحح الحديث كما مرّ . أ هـ .
وهكذا قال شيخ الإسلام الشيخ منصور الحنبلي في شرح الإقناع : وتكلَّم بعضهم في الحديث – أي حديث المغيرة – لأن المعروف عن المغيرة ( الخفين ) قال في المبدع : وهذا لا يصلح مانعاً لجواز رواية اللفظين فيصح المسح على ما تقدم ( أي الجوربين ) .
وكذا قال العلامة ملاَّ على القاري في شرح المشكاة : قيل المعروف من رواية المغيرة المسح على الخفين ، وأجيب بأنه لا مانع من أن يروي المغيرة اللفظين ، وقد عضده فعل الصحابة . أ هـ . وسيأتي تسميتهم وبلوغ عدتهم ستة عشر صحابياً .
و ( الثالث ) وهو جوابنا عن دعوى شذوذه علماً ، أنَّ الشذوذ مختلف في معناه ، وأنه ليس بعلة على الإطلاق ولا بمتفق عليها . توضيحه أن السيوطي قال في التدريب [15] في شرح قول النووي في حدِّ الصحيح : ( وهو ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علَّة ) ما مثاله : قيل لم يفصح بمراده من الشذوذ هنا ، وقد ذكر في نوعه ثلاثة أقوال : ( أحدها ) مخالفة الثقة لأرجح منه ، و( الثاني ) تفرد الثقة مطلقاً ، و ( الثالث ) تفرد الراوي مطلقاً . قال : ورد الأخيران فالظاهر أنه أراد هنا الأول ، قال شيخ الإسلام : وهو مشكل ، لأن الإسناد إذا كان متصلاً ورواته كلهم عدولاً ضابطين فقد انتفت عنه العلل الظاهرة ، ثم إذا انتفى كونه معلولاً فما المانع من الحكم بصحته ؟ فبمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أوثق منه ، أو أكثر عدداً ، لا يستلزم الضعف ، بل يكون من باب صحيح وأصح . قال : ولم أرَ مع ذلك من أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبَّر عنه بالمخالفة ، وإنما الموجود من تصرُّفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة .
وقال الإمام النووي في بحث الشاذ : ( فإن لم يخالف الراوي بتفرده غيره وإنما روى أمراً لم يروه غيره فإن كان عدلاً حافظاً موثوقاً بضبطه كان تفرده صحيحاً ، وإن لم يوثق بحفظه ولم يبعد عن درجة الضابط كان ما انفرد به حسناً ، وإن بعُد كان شاذّاً منكراً مردوداً ) أهـ . وبه يعلم أنَّ الشذوذ ليس علة قادحة في صحة المروي مطلقاً بل هي على هذا التفصيل ، وإن من كان عدلاً حافظاً موثوقاً بضبطه كان تفرده صحيحاً .
وممن اعترض جعل الشذوذ قادحاً في صحة الحديث الإمام ابن دقيق العيد فقد قال العراقي : وأما السلامة من الشذوذ والعلَّة فقال ابن دقيق العيد في ( الاقتراح ) : ( إن أصحاب الحديث زادوا ذلك في حدِّ الصحيح – قال – وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء ، فإن كثيراً من العلل التي يعلِّل بها المحدِّثون لا تجري على أصول الفقهاء ) [16] .
وقال ابن الصلاح : ( وقد يختلفون في صحة الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه [17] أو لاختلافهم في اشتراط بعضها ) .
فأفاد أن اشتراط السلامة من الشذوذ ليس بمتفق عليه ، بل هو مختلف فيه ، ولذا حدَّ الإمام الخطابي الصحيح بأنه : ما اتصل سنده وعدلت نقلته . قال العراقي : ( فلم يشترط ضبط الراوي ، ولا السلامة من الشذوذ والعلة ) .
وحكي أن مثل هذه الشروط مردُّها إلى اجتهاد المجتهدين في تحري المأثور ، ولذلك تفاوتت مسنداتهم ومخرجاتهم بتفاوت شروطهم كما بسطناه في مقدمة كتاب ( حياة البخاري ) . وكل ما يبحث عن تصحيحه باعتبار السند وقواعد المصطلح فذاك من حيث رعاية صحته سنداً ، وأما من حيث تصحيحه باعتبار أمر أجنبي عنه – وهو المسمى بالصحيح لغيره – فذاك نوع آخر على ما سيأتي بيانه .

الشبهة الرابعة  :
قول الإمام النووي في شرح المهذّب : واحتج أصحابنا [18] بأنه لا يمكن متابعة المشي عليه فلم يجز كالخرقة . قال : والجواب عن حديث المغيرة من أوجه :
( أحدها ) أنه ضعيف ضعفه الحفَّاظ ، وقد ضعفه البيهقي ، ونقل تضعيفه عن سفيان الثوري ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحي بن معين ومسلم بن الحجاج وهؤلاء هم أعلام أئمة الحديث ، وإن كان الترمذي قال : ( حديث حسن صحيح ) ، فهؤلاء مقدمون عليه ، بل لو كل واحد من هؤلاء لو انفرد قدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة .
( الثاني ) أنه لو صح يحمل على الذي يمكن متابعة المشي عليه جمعاً بين الأدلة ، وليس في اللفظ عموم يتعلق به .
( الثالث ) حكاه البيهقي رحمه الله عن الأستاذ أبي الوليد النيسابوري أنه حمله على أنه مسح على جوربين منعلين ، لا أنه جورب منفرد ونعل منفردة فكأنه قال : مسح على جوربيه المنعلين . أهـ .
و( الجواب عن ذلك ) : أما قول الإمام النووي : ( واحتج أصحابنا بأنه لا يمكن متابعة المشي عليه ) فهذا قد يراه المقلد حجة ، أما المحدِّث والأصولي فعنده الحجة الكتاب والسنة وما رجع إليهما من بقية الأدلة . وقانون المناظرة يقضي بأن يدفع القوي بالأقوى ، والحديث بمثله أو بآية ، ولا برأي أو قياس ، وإلا فيكون ذهاباً إلى ما رمى به أهل الرأي [19] وليس ثمة في الباب آية ترد هذا الحديث ولا حديث يرده ، لا بل ثمة ما يؤيده من الكتاب والسنة كما مرَّ ، وهذا هو الحجة المعروفة في الأصول .
وأما قوله : ( إنه ضعيف ضعفه الحفاظ ) ثم نقل تضعيفه عمن ذكره فجوابه ما قدمناه قبل – في الوجه الثالث –من درء الشبهة الثالثة من معارضة ذلك بتصحيح من صححه ، على أن سند تضعيفه هو دعوى شذوذه ، وقد أوضحنا أن الشذوذ ليس علة مضعفة على إطلاقها ، بل من كان عدلاً ضابطاً كان تفرده صحيحاً ، لا سيما وقد عضده ما روي بمعناه من حديث التساخين المتقدم وما قواه من عمل الصحب كما سيأتي ، ولذا صححه الإمام الترمذي ، ولا يخفى أن المضعفين له مهما كثروا فإن حجة تضعيفهم شذوذه وقد عرفتَ ما فيها ، فليس المقام مقام ترجيح بالكثرة والقلة بل المقام مقام استدلال واحتجاج وانطباق على القواعد المرعية ، وإلا فإن الكثرة ليست من الحجج والبراهين المعروفة ، ولذا قال الأصوليون [20] في بحث خبر الآحاد : إن عمل الأكثر بخلافه – أي بخلاف خبر الآحاد – لا يمنع وجوب العمل به لأن عمل الأكثر ليس بحجة ، وعللوه بأن الحجة هي الإجماع ، وعمل الأكثر ليس بإجماع لأن الإجماع اتفاق مجتهدي الأمة ، بخلاف خبر الواحد فإنه حجة بنفسه . على أنَّا لو أردنا أن نكاثر من ضعفه لكاثرنا بأضعاف ما عنده ، فإن المسح على الجوربين أثر عن الصحابة منهم عمر بن الخطاب [21]، وعلي ، وأبي مسعود ، والبراء ، وأنس ، وأبي أمامة ، وسهل ، وعمرو بن حريث ، وابن عباس ، وابن عمر ، وابن أبي وقاص ، وعمار ، وبلال ، وابن أبي أوفى ، والمغيرة ، وأبي موسى رضي الله عنهم . ومن التابعين عن قتادة ، وابن المسيب ، وابن جريج ، وعطاء ، والنخعي ، والحسن ، وخِلاس ، وابن جبير ، ونافع رحمهم الله تعالى . وسيأتي إسناد ذلك إليهم ، فذهاب هؤلاء الأخيار رضي الله عنهم إلى العمل به مما يعضد صحة حديث المغيرة ويقويه ويصححه بلا ريب ، لأنه إن لم يكن هو سندهم فغيره مما هو في معناه ، وهذا لا يتوقف فيه من له أدنى مسكة . على أن حديث الجوربين قد تلقاه بالقبول أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود الظاهري وابن حزم ، وهؤلاء كلهم أئمة الفقه والاجتهاد ، وجميعهم احتج به في الفقه المدوَّن عنه . وقد عرف في فن مصطلح الحديث 4 أن الحديث يحكم له بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول 5 وإن لم يكن له إسناد صحيح 6 ، قال أبو الحسن ابن الحصار في تقريب المدارك على موطأ مالك : قد يعلم الفقيه صحة الحديث – إذا لم يكن في سنده كذّاب – بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة ، فيحمله ذلك على  قبوله والعمل به . أ هـ . ويسمى هذا ( الصحيح لغيره ) ، والصحيح لغيره نظير الصحيح لذاته في الاحتجاج به والعمل بمقتضاه والأخذ بعمومه وخصوصه وإطلاقه وتقييده .
ولمعرفة صحة الحديث من جهة غير السند طرق ومدارك يدريها الفقيه المجتهد كما قرّره ابن الحصار .
وبهذا نجيب عما نقول بصحته مما لم يخرجه الإمام البخاري ، وذلك أن البخاري إنما خرج ما صحَّ من طريق السند ولم يخرج ما صح مطلقاً ، ولذا قال البخاري : ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحالة الطول . وكذا قال مسلم : ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا  إنما وضعت ما أجمعوا عليه . ولذا قال النووي في التقريب : ولم يستوعبا الصحيح ولا التزماه [22] . على أن ظاهر كلامهما أنهما تركا ما صح من جهة السند أيضاً الذي هو وجهة المحدث خيفة الطول ، فأحرى أن يكونا تركا ما صح لغير السند وهو الصحيح لغيره ، وذلك لأن الصحيح لغيره ليس له قاعدة مطردة ، وإنما هو أمر يعرفه سديد الرسوخ في الأصول والفروع ، النهِم بدرس الهدى النبوي ومعرفة سر التشريع ودرك حقيقة الفقه في الدين .
وقد كان بعض المحققين يسمي هذه الطريقة بطريقة ( قبول الأخبار بالاستدلال ) ليعادل ما بحثه الأصوليون في مسألة ( رد الخبر بالاستدلال ) كما تراه مبسوطاً في المسوّدة وغيرها من مطولات الأصول . وعبارة المسوَّدة : مما يرجح فيه الخبر ويقدم أن يعتضد بعموم كتاب أو سنة أو قياس أو معنى عقلي .
وقد ذهب كثير من أئمة الأصول إلى أن الحديث المتلقى بالقبول يفيد العلم ، والحديث الذي عضده عمل الصحب ، وكذا ما اختلفوا فيه بين آخذٍ ومؤوّل ، وما يوافق آية من كتاب الله تعالى ، أو قاعدة وأصلاً من أصول الدين والمعرفة ، أو يوافق مشروعاً موافقة تصحِّح المشابهة بينهما ( كما تراه في جمع الجوامع وغيره ، ومطوَّلات مصطلح الحديث ) .
إذا تقرّر هذا فحديث الجوربين مما تلقي بالقبول [23] ، وعضده عمل الصحب عليهم رضوان الله ، ووافق آية ( وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )(المائدة: من الآية6) على قراءة الجر والنصب إذا رجعت إليه ، ويندرج تحت قاعدة رف الحرج ، ويوافق مسح الخف ، وجميع هذا مما يصحح المروي أيما تصحيح . وبالجملة فقد اجتمع في حديث الجوربين الصحتان معاً : صحته من حيث السند كما صرح به الترمذي وابن حبان وكما حققناه من درء الشذوذ المزعوم فيه ، وصحته من غير السند وهي الأمور التي سردت الآن ، ومتى صح الحديث فليس إلا السمع والطاعة .
وأما قول الإمام النووي : إنه لو صح يحمل على الذي يمكن متابعة المشي عليه جمعاً بين الأدلة ، فمطلوب البيان من جهة الجورب ، فأين الدليلعلى اشتراط أن يمكن تتابع المشي عليه فيه ؟ ومعلوم أن الجوارب غير الخف ولكل حكمه ، وإذا أطلق الدليل في الأصول فلا ينصرف إلا إلى الكتاب والسنة وما رجع إليهما ، ولا تعارض إلا بين دليلين متكافئين ، وهناك يتلمس الجمع وإلا فإن المدار على الأقوى فالأقوى اتفاقاً ، وليس في الباب إلا إطلاق الجوربين وعموم التساخين في حديثهما .
وأما قوله : وليس في اللفظ عموم يتعلق به ، فيقال فيه : هذا إشارة إلى ما ذكر في الأصول من أن الفعل المثبت لا عموم له ، فحكايته لا تقتضي العموم ، لا للأقسام ، ولا لجهات الوضع ، ولا للأزمان .
إلا أن هذا على مذهب من لم يقل بعموم المشترك ولا بعموم جهات الوضع ، فأما من ذهب إلى العموم فيهما فقد ذهب إلى العموم فيه .
كذلك قيّد المحققون دعوى عدم العموم فيه بما إذا لم يوجد في ظاهر اللفظ دليل العموم كلام الإستغراق ( كالجوربين والتساخين ) وإلا فإنه يفيد العموم ، ودليلهم أن المحكي عنه صلوات الله عليه واقع على صفة معينة فيكون في معنى المشترك ، فإن رجح بعض الوجوه فذاك ، وإن ثبت التساوي فالبعض بفعله والباقي بالقياس عليه .
وقد اعترض بأن فعله صلى الله عليه وسلم إنما وقع بحال معين . وأجيب بعدم التسليم لجواز أن تتعدد جهات وقوع الفعل كما أوضحه العلامة الفناري في ( فصول البدائع ) .
وأما قوله : إن البيهقي حكى عن النيسابوري أنه حمله على أنه مسح على جوربين منعلين لا أنه جورب منفرد ونعل منفردة وكأنه قال مسح على جوربيه المنعلين ، فيعني بذلك ما قاله البيهقي في سننه وقد حكى ذلك ثم قال بعده : وقد وجدت لأنسٍ أثراً يدل على ذلك فأسند عنه أنه مسح على جوربين أسفلهما جلود وأعلاهما خز . أهـ . [24] وتعقبه العلامة علاء الدين المارديني في ( الجوهر النقي ) بقوله : أي الحديث – أي حديث المغيرة – ورد بعطف النعلين على الجوربين وهو يقتضي المغايرة فلفظه مخالف لهذا التأويل ، وكون أنس مسح على جوربين منعلين لا يلزم منه أن يكون النبي عليه السلام فعل ذلك ، فلا يدل فعل أنس على تأويل الحديث بما لا يحتمله لفظه . أهـ .
وقال ابن الهمام في فتح القدير في ردِّ هذا التأويل : إن تخصيص الجواز بوجود النعل حينئذٍ قصْرٌ للدليل – أعني الحديث – والدلالة عن مقتضاه بغير سبب . أ هـ . أي بغير ما يدعو له لا من لفظه ولا من مقتضاه ، فإن صريحه أنه صلوات الله عليه مسح على الجوربين وعلى النعلين كلاً على انفراده ، وأيده في النعلين أحاديث كثيرة مخرجة في دوواين السنة :
(1)                            فروى الإمام أبو داود في سننه عن أوس بن أبي أوس الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وقدميه .
(2)                            وأخرج الإمام أحمد في سننه عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت أبي يوماً توضأ فمسح على النعلين ، فقلت له : أتمسح عليهما ؟ فقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل .
(3)                            وأخرج الإمام أحمد أيضاً عن أوس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة .
(4)                            وأخرج الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره عن أوس أيضاً قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فتوضأ ومسح على قدميه ( أي على نعليه فيهما ليوافق روايته السالفة ) [25] .
(5)                            وأخرج الطبراني عن عباد بن تميم عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ويمسح على رجليه [26] .
(6)     وروى الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره عن حذيفة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال عليها ، ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه [27] .
(7)                            وروى البزار بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ويمسح عليهما ويقول : كذلك رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ( أورده الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الهداية ) ، وقال السيوطي في التدريب [28] : صحح أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن القطان صاحب كتاب ( الوهم والإيهام ) حديث ابن عمر هذا المخرج في مسند البزار .
(8)                            وروى البيهقي [29] بإسناد جيد عن ابن عمر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ( يعني النعال السبتية ) ويتوضأ فيها ويمسح عليها . نقله الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الهداية .
(9)                            وروى الشيخان البخاري ومسلم عن عبيد بن جريج عن عبد الله بن عمر أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال السبتية التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها ، فأحب أن ألبسها . ومعنى قوله : يتوضأ فيها أنه يمسح عليها كما أوضحته رواية البزار والبيهقي قبل ، والروايات يفسر بعضها بعضاً . وأما قول البخاري : معناه غسل الرجلين في النعلين فرده الحافظ الإسماعيلي كما نقله العيني ، وذلك لمخالفته لما روى عن ابن عمر نفسه .
(10)                       وروى الدارمي في مسنده عن عبد خير قال : رأيت علياً توضأ ومسح على نعلين فوسع ، ثم قال : لو لا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما [30] .
(11)                       وروى ابن خزيمة من طريق عبد خير عن علي رضي الله عنه أنه دعا بكوز ماء ثم توضأ وضوءاً خفيفاً ومسح على نعليه [31] ثم قال : هكذا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم للطاهر ما لم يحدث [32] . وتبعه ابن حبات على ذلك وقال في حديث أوس المتقدم : هذا كان في النفل [33] .
فهذه الآثار كلها تدل على أن المسح على النعلين إنما كان عليهما دون شيء آخر معهما كجورب .
وجميعها يفسر حديث المغيرة بما ذكرناه قبل ، ولهذا اتفقوا على عدم اشتراط النعل في الجوربين ، وجوزوا كونهما ثخينين وإن لم يكونا منعلين كما سيأتي ، فسقط ما قاله النيسابوري وكذا غيره .
 

الشبهة الخامسة  :
ما ورد على حديث أبي موسى الأشعري ، فقد قال أبو داود في سننه : روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الجوربين ، وليس بالمتصل ولا بالقوي . قال السندي في حواشيه على أبي داود : قوله : ( وليس بالمتصل ) أي لأنه من رواية الضحاك ابن عبد الرحمن عن أبي موسى ولم يثبت سماعه منه . وقوله ( ولا بالقوي ) أي لأنه من رواية عيسى بن سنان عن الضحاك وقد ضعفه أحمد وابن معين وأبو زرعة والنسائي وغيرهم . أهـ . وقال الحافظ ابن حجر : حديث أبي موسى الذي أشار إليه أبو داود أخرجه ابن ماجه وفي إسناده ضعف وانقطاع كما قال أبو داود . أهـ .
و( الجواب ) ما قاله العلامة المحقق علاء الدين المارديني في ( الجوهر النقي في الرد على البيهقي ) من أن التضعيف بعدم ثبوت سماع عيسى بن سنان من أبي موسى هو على مذهب من يشترط للاتصال ثبوت السماع . قال : ثم هو معارض بما ذكره عبد الغني فإنه قال في الكمال : سمع الضحاك من أبي موسى . قال : وابن سنان وثقه ابن معين وضعفه غيره . وقد أخرج الترمذي في الجنائز حديثاً في سنده عيسى بن سنان هذا وحسنه . أهـ .
وقال الذهبي في الميزان : هو – أي ابن سنان – ممن يكتب حديثه . وقال : وقواه بعضهم  ، وقال العجلي : لا بأس به . أهـ . وبالجملة وإن وُجِد من ضعفه فقد وجد من وثقه . ومن الأئمة من لا يترك حديث المضعف حتى يجمعوا على تركه [34] . ولا يقال إن الجمهور على أن الجرح مقدم على التعديل لأنه مقيد بأن يكون الجرح مفسّراً لا مجملاً ، وبأن يبنى على أمر مجزوم به لا بطريق اجتهادي كما قاله الإمام ابن دقيق العيد ونقله عنه السيوطي في التدريب [35] ، فالمسألة تحتاج إلى دقة فإنها ليست على إطلاقها كما وهم . ومع ذلك فقد يتأيد الحديث ويعضد بأن يروى من وجه آخر بلفظه أو معناه ، وقد وجد مروي أبي موسى هذا بلفظه في حديث المغيرة ، وبمعناه في حديث ثوبان في التساخين ، فأصبح من الحسن لغيره ، وهو كالحسن لذاته ، وكلاهما يعمل به ويحتج بمقتضاه . ( انظر مطولات المصطلح ) .
وبالجملة فمهما أعلت هذه الأحاديث بما أعلت به من انقطاع أو شذوذ فقد تبين بما برهنا عليه أن منها الصحيح لذاته على قول الترمذي كما تقدم ، ومنها الصحيح لغيره . وقد نبه في الأصول على أن الحديث المعلل – إذا عضده ضعيف أو قول صحابي أو فعله أو قول الأكثر من العلماء أو قياس أو انتشار له من غير نكير أو عمل أهل العصر على وفقه – كان المجموع حجة ، لأنه يحصل من اجتماع الضَّعفين قوة مفيدة للظن . انظر جمع الجوامع وشرحه في بحث المرسل . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . 

  بيان أن الجورب معروف في اللغة والشرع لا سبيل إلى صرفه إلى غير المعروف
  في ( المصباح ) : والجورب فَوْعَل وهو معرب ، والجمع جواربه بالهاء وربما حذفت . أهـ. فلم يحده لأنه بديهي معروف لكل أحد ، ولا حد للبديهيات .
  وفي ( القاموس وشرحه ) : والجورب لفافة الرجل . وفي ( لسان العرب ) مثله . وقال أبو بكر بن العربي : الجورب غشاءان للقدم من صوف يتخذ للدفاء . أهـ . وفي ( التوضيح ) للحطاب المالكي : الجورب ما كان على شكل الخف من كتان أو قطن أو غير ذلك . وفي ( الروض المُرْبِع ) للبهوتي الحنبلي : الجورب ما يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير الجلد . أهـ . وقال ( العيني ) : الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب . أهـ . وقال ( الحلبي ) في شرح المنية : الجورب ما يلبس في الرجل لدفع البرد ونحوه مما لا يسمى خفاً ولا جرموقاً .أهـ . و ( الجرموق ) قال الفقهاء هو ( الموق ) وهو كما في ( القاموس ) : خف غليظ يلبس فوق الخف . وقال ( ابن سيده ) : والموق ضرب من الخفاف . وقال ( الجوهري ) : الموق خف قصير يلبس فوق الخف ، وهو فارسي معرب .
  ومثل الجورب لا يحتاج إلى أن يعضد معناه اللغوي والشرعي – المعروف لكل أحد – بنقل العلماء في معناه  ، لأنه من باب توضيح الواضحات ، ولكن دعانا لهذا ما رأيناه في بعض كتب من زعم أن الجورب خف يلبس على الخف إلى الكعب للبرد ولصيانة الخف الأسفل من الدرن والغسالة ، وتقييد آخر له بكونه من جلد ، وهذا غلط على اللغة والعرف والفقه أيضاً ، لأن هذا المزعوم هو الجرموق لا الجورب . ومن الغريب قول الجزولي من فقهاء المالكي : اختلف في الجورب والجرموق هل هما اسمان لمسمى واحد ؟ وكان منشأ الاختلاف ما نقل في التوضيح أن الإمام مالكاً رضي الله عنه فسر الجرموق بأنه جورب مجلد من تحته ومن فوقه ، فتوهم منه الجورب لا يكون إلا كذلك ، مع أن الجورب إذا جلد على هذه الصفة وسمي جرموقاً لا يلزم منه أن يكون كل جورب جرموقاً ، لأن الجورب يشمل المجلد وغيره . ولو لا شموله لما احتيج إلى تقييده إذا أريد به نوع خاص . وبالجملة فاللغة والعرف على أن الجورب هو مطلق ما يلبس في الرجل من غير الجلد منعلاً كان أو لا .
ومن المقرر أن كل اسم ورد منصوصاً عليه في الكتاب أو السنة وعلق عليه حكم من الأحكام فإنه يجب أن لا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم ، وأن لا يتعدى به الوضع الشرعي فيه . وبالله التوفيق .

ذكر من روي عنه المسح على الجوربين من الصحابة رضي الله عنهم
قال الإمام أبو داود في سننه في ( باب المسح على الجوربين ) : ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب ، وأبو مسعود ، والبراء بن عازب ، وأنس بن مالك ، وأبو أمامة ، وسهل بن سعد ، وعمرو بن حريث ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس . أهـ .
وزاد ابن سيد الناس في شرح الترمذي : عبد الله بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص . وزاد في شرح الإقناع : عماراً ، وبلالاً [36] وابن أبي أوفى رضي الله عنهم ، فالجملة أربعة عشر صحابياً وكذا المغيرة ، وأبو موسى لروايتيهما المتقدمتين ، فكان المجموع ستة عشر صحابياً .
  وقد أسند ابن حزم في المحلى (2/103) إلى بعض من سميناهم فعل المسح على الجوربين ، وعبارته : والمسح على كل ما لبس في الرجلين – مما يحل لباسه مما يبلغ فوق الكعبين [37] - سنة ، سواء كانا خفين أو جوربين ، إذا لبس على وضوء جاز المسح عليه للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن ثم لا يحل له المسح .
  وبعد أن خرج أحاديث المسح على الجوربين قال : وممن قال بالمسح على الجوربين جماعة من السلف . ثم أسند عن كعب بن عبد الله قال : رأيت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بال فمسح على نعليه وجوربيه .
وعن أبي الجُلاس [38] عن ابن عمر أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه .  وعن إسماعيل عن أبيه قال : رأيت البراء بن عازب يمسح على جوربيه ونعليه . وعن إبراهيم بن همام بن الحارث عن أبي مسعود البدري أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه . وعن عاصم الأحول قال : رأيت أنس بن مالك مسح على جوربيه . وعن ابن عمر قال : بال عمر بن الخطاب يوم جمعة ثم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين وصلى بالناس الجمعة . وعن أبي وائل عن أبي مسعود أنه مسح على جوربين له من شعر . وعن يحي البكاء قال : سمعت ابن عمر يقول : المسح على الجوربين كالمسح على الخفين [39] .
    
ما رُوي عن أعلام الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من جواز المسح على الجوربين وإن كانا رقيقين
قال الإمام النووي في شرح المهذّب : وحكى أصحابنا ( الشافعية ) عن عمر وعلي رضي الله عنهما جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقاً . وحكوه عن أبي يوسف ، ومحمد ، وإسحاق ، وداود ، ثم قال النووي : واحتج من أباحه – وإن كان رقيقاً – بحديث المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه . وعن أبي موسى مثله مرفوعاً . انتهى كلامه ، وفيه من الزيادة عن ما قبله التصريح بالجواز عنهم ولو كان رقيقاً ، وإن كان يفهم ذلك من إطلاق المأثور قبل ، لأن الأصل في المطلق حمله على مطلقه حتى يرد ما يقيده ، كما أن العام له حكمه حتى يخصصه دليل . وسيأتي إيضاح ذلك مما قاله الإمام ابن حزم عليه الرحمة والرضوان .
بيان أن أقوال الصحابة وفتاويهم أولى بالأخذ من غيرها والرد على من زعم رفع ثقته بالمأثور عنهم
هذا بحث عظيم يجب على كل من شدا طرفاً من العلم أن يلقي السمع إليه ، ذلك لأن كثيراً من الناس إذا ذكر له مذهب صحابي في مسألة ما تراه لا يرفع له رأساً ، اتكاء على أنه ليس ممن لقن العمل به ، وربما تطاول فقال: إنه ليس له ممن دوّن مذهبه . ولما كان هذا مما لا يستهان به في الدين ، إذ مثل هذا القول منكر عند الراسخين ، وجب إزاحة اللبس فيه إرشاداً للمتقين ، وذلك لأن الصحابة رضوان الله عليهم في المقام الأسنى والمحل الأعلى في كل علم وعمل ، وفضل ونبل .
  قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ( إعلام الموقعين ) : كما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها فهم سادات المفتين والعلماء ، قال مجاهد : العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . ونقل رحمه الله عن الشافعي أنه قال في الصحابة : هم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم ، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا ..الخ .
  إذا علمت هذا تبين لك أن ما جاء في ( جمع الجوامع ) للسبكي من أن في تقليد الصحابي قولين ، أحدهما المنع لارتفاع الثقة بمذهبه إذ لم يدون ، وعزو شارحه ذلك لإمام الحرمين الجويني والمحققين ( يعني مقلدة الجويني وأتباعه ) كلام مجمل لا يغتر بظاهره ، ويؤخذ من كلام غير واحد من الأئمة رده . بل السبكي نفسه رد ذلك وقال – كما نقله عنه الزركشي وتراه في حواشيه : إن تحقق ثبوت مذهبه ( أي الصحابي ) جاز تقليده اتفاقاً .
  وقد سئل العز بن عبد السلام[40] عمن صح عنده مذهب أبي بكر أو غيره من علماء الصحابة في شيء فهل يعدل إلى غيره أم لا ؟ فأجاب بأنه إذا صح عن أحد الصحابة مذهب في حكم من الأحكام فلا يجوز العدول عنه إلا بدليل أوضح من دليله . قال : ولا يجب على المجتهدين تقليد الصحابة في مسائل الخلاف بل لا يحل ذلك في وضوح أدلتهم على أدلة الصحابة . أهـ .
  وقال ابن تيمية في بعض فتاويه : وأما أقوال الصحابة فإن اتنشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء ، وإن تنازعوا رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء . وإن قال بعضهم قولاً ولم يقل بعضهم بخلافه ولم ينتشر فهذا فيه نزاع ، وجمهور العلماء يحتجون به كأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه . أهـ .
  والنصوص في العناية بأقوال الصحابة أوفر من أن تحصر ، نقول هذا تمهيدا للأقوال المأثورة في المسح على الجوربين في كتاب السنن لأبي داود وغيره فإنها حجة في هذا الباب على كل من خالف كيفما كان حالها ، لأنها – على ما فصله ابن تيمية وقرره الأصوليون – إما منتشرة غير منكورة ، وما كان كذلك فهو حجة باتفاق ، وإما أنها قال بها بعضهم ولم ينتشر ما يخالفه والجمهور يحتجون بذلك . وقد علم أنه ليس ثم مخالف فينتشر قوله إذ لم يرد عنهم فيه إلا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو عملهم به علة ما عرفت من روايات متعددة . ومن الجلي في باب الأحكام أن حكماً بلغ عدد رواته والقائلين به والعاملين به ستة عشر لو كانوا من طبقة غير الصحابة لما توقف في قبوله ، فكيف وكلهم من طبقة الصحابة عليهم رحمة الله ورضوانه .
  هذا كله على فرض أنه لم يرو في الباب – أي باب المسح على الجوربين – إلا قولهم فقط ، وإلا فقد قدمنا ما روي فيه من الأحاديث التي هي الحجة في هذا الباب والمردُّ عند التنازع ( وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ) . وإنما هذه الجملة ينبغي أن ينتبه لها الذين لا يأبون إلا التقليد ليعلموا أن من آثر التقليد فالأحرى به تقليد الصحابة لأنهم الأعلم ، وأجمع الأصوليون على أنه يقدم – في باب التقليد – الأعلم . قال ابن القيم في أعلام الموقعين : فلا يدرى ما عذر المقلد في ترجيح أقوال غير الصحابة على أقوالهم ، فكيف إذا منع الأخذ بقول الصحابة ، فكيف إذا صار يرمى بالابتداع من عمل بها ؟! لا جرم أنه أخذ بالمثل المشهور : رمتني بدائها وانسلت . أهـ .
  وأما شبهة عدم الوثوق بما يؤثر مذهباً للصحابة إذ لم يدون مذهبهم ، فأوهى من بيت العنكبوت لأن كلامنا فيما نقل عنهم في الكتب الموثوق بها المتداولة في الأيدي من كتب السنة والفقه لا سيما الصحيحان وكتب السنن ، فقد حفظت من الزيادة والنقص بقوة العناية بها شرحاً وضبطاً ووفرة النسخ المخطوطة المعلم عليها بسماعات الحفاظ في معظم المكتبات مما لا يوجد نظيره في كتب أئمة الفقه المشهورة مذاهبهم . ولا ريب أن ذلك من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قيض الله لسنته من حفظها كما فعل ذلك بتنزيله الكريم ، وله الحمد والمنة .
  على أن المعول عليه منذ انتشر التأليف والتصنيف هو النقل عن الموجود الذي تثق به النفس – سواء كان مقابلاً كله على أصله أو لا- ما دام يغلب على الظن صحته ويطمئن له القلب ، وهو المسمى بالوجادة . ولذا اعترض الإمام المقبلي في ( العلم الشامخ ) على تصريحهم بعدم اعتماد الوجادة بأن هذا يناقضه ، إذ هو – أي قولهم المذكور – وجادة ليس إلا . قال : وأما الوثوق فهو شرط في كل طريق . أهـ .
  بل على الوجادة المذكورة اعتماد القضاة والمفتين والمستنبطين ، إذ يتعذر إسناد كل كتاب إلى مؤلفه وضبطه عنه بالسماع والقراءة في كل الطبقات ، على أن كتب الحديث وجد فيها من الضبط والتلقي والشرح لها وتعداد نسخها المصححة تفاخراً بقراءتها وتشرفاً بسماعها وتلقيها والإجازة لها ما لم يوجد عُشر عشره في مؤلفات الأئمة الأربعة ولا غيرهم ، ولو أريد نسخ كتاب من مؤلفات الأئمة أو طبعه يحول دون الظفر بنسخ كاملة منه ما يحول [41] ، ولا يرى غالباً بعد التنقيب إلا أجزاء متفرقة أو نسخة مخرومة ، مع أن حق مقلدة أئمتها أن ينسخوا منها في كل قرن الألوف وأن يخدموها بالقراءة والإقراء والنشر والشروح . ولقد حرصت مرة على أن أظفر بنسخة مخطوطة من رسالة الإمام الشافعي أو بشرح لها لأقابل بها المطبوعة وأنسخ الشرح فلم أجد لها من أثر في مكتبة من مكاتب القطر الشامي ، أين هذا من نسخ كتب الصحيحين والسنن المخطوطة التي امتلأت منها مكاتب الدنيا ، ولا يعيي الظفر بجيداتها على طالب ما . أفليس الوثوق إذن بكتب السنة وما فيها من المرفوع والموقوف (وهو أقوال الصحب وفتاويهم) أقوى في النفس من غيرها ؟ اللهم فبلى .
  ومما يؤيد ما قدمناه في الوجادة ما في تدريب الراوي للسيوطي شرح تقريب النواوي في أواخر بحث الصحيح ، وعبارته [42] : عن الإمام ابن برهان في الأوسط : ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه ، بل إذا صح عنده النسخة جاز له العمل بها وإن لم يسمع .
  وحكى الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة ، وأنه لا يشترط اتصال السند إلى مصنفيها . وقال إلْكِيا الطبري في تعليقه : من وجد حديثاً في كتاب صحيح جاز له أن يرويه ويحتج به .
  وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في جواب سؤال : وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها ، والاستناد إليها ، لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية ، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة بها وبُعْد التدليس . أهـ .
  فتأمل تظاهر أقوال الأئمة على اعتماد ما في كتب الفقه وغيرها تعلم أنه إذا وجد فيها نقل عن صحابي أو حكاية مذهب له أنه يوثق به ويعمل بلا ارتياب ، ويكون أولى من غيره في باب التقليد لمن شاءه ، فافهم ولا تكن أسير التقليد .


من روي عنه المسح على الجوربين من التابعين
  لا يخفى أنه إذا لم يوجد في مسألة ما أثر مرفوع ولا موقوف ووجد للتابعين قول أو فتوى في شأنها كان ذلك مما يعتبر أو يؤثر ، ولا سيما في باب تقليد الأعلم والأفضل عند المقلدة ، وقد روى محمد بن سعد [43] أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال للحسن : أرأيت ما تفتي به الناس أشيء سمعته أم رأيك ؟ فقال الحسن : لا والله ما كل ما نفتي به سمعناه ، ولكن رأينا لهم خير من رأيهم لأنفسهم .أهـ . [44]
  وقد روي عن التابعين في المسح على الجوربين عدة آثار : أخرج الإمام ابن حزم رضي الله عنه في كتاب المحلى عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : الجوربان بمنزلة الخفين في المسح . وعن ابن جريج قلت لعطاء : أيمسح على الجوربين ؟ قال : نعم امسحوا عليهما مثل الخفين . وعن إبراهيم النخعي أنه كان لا يرى بالمسح على الجوربين بأساً . وعن الفضل بن دكين قال : سمعت الأعمش – وسئل عن الجوربين : أيمسح عليهما من بات فيهما ؟ - قال : نعم . وعن قتادة عن الحسن وخِلاس ابن عمرو أنهما كانا يريان الجوربين في المسح بمنزلة الخفين ، ثم عد من التابعين سعيد بن جبير ونافعاً [45] . ( ثم قال ابن حزم ) : وهو قول سفيان الثوري ، والحسن ابن حي ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأبي ثور ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهَوَيْه ، وداود بن علي ( الظاهري ) وغيرهم . أهـ .


بيان أقوال الفقهاء المشهورين في المسح على الجوربين
  ( مذهب المالكية في المسح على الجوربين ) :
  قال الإمام ابن القاسم في المدونة : كان مالك يقول في الجوربين يكونان على الرجل وأسفلهما جلد مخروز وظاهرهما جلد مخروز : إنه يمسح عليهما . ثم رجع فقال : لا يمسح عليهما .
قال ابن القاسم : وقوله الأول أحب إلي إذا كان عليهما جلد كما وصف لك . أهـ . قال ابن يونس : وهو – أي قول مالك الأول – الصواب ، لأنه إذا كان عليه جلد مخروز يبلغ الكعبين فهذا كالخف ( نقله المواق في التاج والإكليل ) . وفي اختيار ابن القاسم الذي رجع عنه إمامه مالك وتصريحه بأنه أحب إليه . وقول ابن يونس إنه الصواب أكبر اعتبار في أن أصحاب الأئمة كانوا يتجافون التقليد البحت ولا يعوّلون إلا على الدليل ويصبح ذلك مذهباً لهم في الحقيقة . وهكذا كان أمر صاحبي أبي حنيفة معه . وهكذا أصحاب الشافعي ، فإن المزني كثيراً ما ينفرد بقول عن أستاذه الشافعي . وقد نقل النووي في آخر شرح خطبة المهذب عن إمام الحرمين أن المزني إذا انفرد برأي فهو صاحب مذهب . وقد اختار كثير من أصحاب الشافعي بعض مسائله التي رجع عنها وأفتوا بها بعده . قال إمام الحرمين : المرجوع عنه ليس مذهباً للراجع ، فإذا عُلمت حال القديم ووجدنا أصحابنا أفتوا بهذه المسائل على القديم حملنا ذلك على أنه أدّاهم اجتهادهم إلى القديم لظهور دليله وهم مجتهدون فأفتوا به .أ هـ . فتأمل قوله : ( وهم مجتهدون ) ، تعلم غلط ما يهرف به البعض من أنهم مجتهدون في المذهب لا مطلقاً ، فإنهم مجتهدون على الإطلاق ، وليس كل مجتهد ذا أتباع ومذهب مدوّن ، على أنه لو خرج على قواعد الإمام لم يكن مذهباً له . قال الإمام النووي : وقد سبق اختلافهم في أن المخرج هل ينسب إلى الشافعي ؟ والأصح أنه لا ينسب . أ هـ  .    

1 – ما روي عن الإمام الشافعي وأصحابه في المسح على الجوربين
  قال الإمام الترمذي في سننه ( في باب المسح على الجوربين والنعلين ) ما مثاله : وهو ( أي المسح على الجوربين ) قول غير واحد من أهل العلم ، وبه يقول سفيان الثوري ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، قالوا : يمسح على الجوربين وإن لم يكونا منعلين ، إذا كانا ثخينين . أهـ . ومعلوم أن الإمام الترمذي روى عن أصحاب الإمام الشافعي ، ولذا قال في آخر كتابه ( السنن ) : وما كان فيه من قول الشافعي فأكثره ما أخبرني به الحسن بن محمد الزعفراني عن الشافعي ، وما كان من الوضوء والصلاة فحدثنا به أبو الوليد المكي عن الشافعي ، ومنه ما حدثنا أبو إسماعيل قال : حدثنا يوسف بن يحي القرشي البويطي عن الشافعي ، وذكر فيه أشياء عن الربيع عن الشافعي ، وقد أجاز لنا الربيع ذلك وكتب به إلينا . أهـ .
  وقال الإمام الشيرازي في المهذّب : وإن لبس جورباً جاز المسح عليه بشرطين : أحدهما أن يكون صفيقاً لا يشف ، والثاني أن يكون منعلاً . قال شارحه النووي : وهكذا قطع به جماعة منهم الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصبَّاغ وغيرهم . ونقل المزني أنه  لا يمسح على الجوربين إلا أن يكونا مجلدي القدمين . ثم قال النووي : والصحيح بل الصواب ما ذكره القاضي أبو الطيب والقفال وجماعات من المحققين أنه إن أمكن متابعة المشي جاز كيف كان ، وإلا فلا . أهـ .

2 - مذهب الحنفية
  قال الإمام الكاساني في بدائع الصنائع : وأما المسح على الجوربين فإن كانا مجلدين أو منعلين [46] يجزيه بلا خلاف عند أصحابنا ، وإن لم يكونا مجلدين ولا منعلين فإن كانا رقيقين يشفان [47] الماء لا يجوز المسح عليهما بالإجماع [48] وإن كانا ثخينين [49] لا يجوز عند أبي حنيفة ، وعند يوسف ومحمد يجوز . وروى عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قولهما في آخر عمره ، وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه ثم قال لعوّاده : فعلت ما كنت أمنع الناس منه . فاستدلوا به على رجوعه . ثم قال : احتج أبو يوسف ومحمد بحديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين ، ولأن الجواز في الخف لرفع الحرج لما يلحقه من المشقة بالنزع ، وهذا المعنى موجود في الجورب . أهـ .

3 -  مذهب الحنابلة
  في الإقناع وشرحه : ويصح المسح على جورب صفيق من صوف أو غيره وإن كان غير مجلد أو منعل ، أو كان من خِرق وأمكنت متابعة المشي عليه . ثم قال : وحديث المغيرة ( مسح صلى الله عليه وسلم على الجوربين والنعلين ) يدل على أنهما كانا غير منعولين ، لأنه لو كانا كذلك لم يذكر النعلين لأنه لا يقال : مسح على الخف ونعله [50] . أهـ .

                             4 – ما قاله الإمام ابن رشد المالكي
  قال رحمه الله في ( بداية المجتهد ) : واختلفوا في المسح على الجوربين . وسبب اختلافهم اختلافُهم في صحة الآثار الواردة عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح على الجوربين والنعلين ، واختلافهم أيضاً هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها . فمن لم يصح عنده الحديث أو لم يبلغه ولم ير القياس على الخف قصر المسح عليه ، ومن صح عنده الأثر وجواز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين . أهـ .
  عادة ابن رشد في كتابه المذكور إيضاح مدارك المجتهدين ، إلا أن كل مسألة تعددت فيها المدارك وتشعبت عنها الأقوال فالحق في واحد منها قطعاً ، وهو ما صح برهانه ، وقوي مدركه . وقد صح البرهان هنا في المسح على الجوربين ، وقوي مدركه بما نقلناه قبل وننقله بعد ، ولذا قال الإمام النووي في حديث صوم ست من شوال في مسلم في رده على الإمام مالك في كراهتها ما مثاله : إذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها . أهـ . وهكذا يقال في المسح على الجوربين لا يترك بعد ثبوته لخلاف من خالف ولقياس من قاس ، لأنه لا اجتهاد في مقابلة نص ، ونبرأ إلى الله من دفع النصوص بالأقيسة والآراء .
  قال الإمام ابن القيم [51] من لم يقف مع النصوص فإنه تارة يزيد في النص ما ليس منه ويقول : هذا قياس ، ومرة ينقص منه بعض ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه ويقول : هذا تخصيص ، ومرة يترك النص جملة ويقول : ليس العمل عليه ، أو يقول : هذا خلاف القياس أو خلاف الأصول . ثم قال : ونحن نرى أنه كلما اشتد توغل الرجل في القياس اشتدت مخالفته للسنن ، ولا نرى خلاف السنن والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقياس ، فلله كم من سنة صحيحة صريحة قد عطلت به ، وكم من أثر درس حكمه بسببه ، فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين خاوية على عروشها معطلة أحكامها معزولة عن سلطانها وولايتها ، لها الاسم ولغيرها الحكم ، وإلا فلماذا ترك حديث المسح على الجوربين ( إلى آخر ما قاله وعدده . فانظره ) أي مع أنه ثبت في السنة بل اقتضاه القياس أيضاً كما ستراه في كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
 
مذهب الظاهرية
  قال الإمام ابن حزم نوَّر الله مرقده في كتابه ( المحلى ) : اشتراط التجليد لا معنى له ، لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولا قياس ولا قول صاحب ، والمنع من المسح على الجوربن خطأ لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاف الآثار ، ولم يخصّ عليه السلام في الأخبار التي ذكرنا خفين من غيرهما . أهـ .[52] يؤيده أن كل المرويّ في المسح على الجوربين مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه قيد ولا شرط ، ولا يفهم ذلك لا من منطوقه ولا من مفهومه ولا من إشارته ، وجليٌّ أن النصوص تحمل على عمومها إلى ورود مخصص ، وعلى إطلاقها حتى يأتي ما يقيدها ، ولم يأت هنا مخصص ولا مقيد لا في حديث ولا أثر . هذا ( أولاً ) . و( ثانياً ) قدمنا أن الإمام أبا داود روى في سننه عن عدة من الصحابة المسح على الجوربين مطلقاً غير مقيد كما قدمناه وهكذا كل من نقل عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين المسح على الجوربين لم يروه بقيد ولا شرط مما يدل على أن تقييده لم يكن معروفاً في عصورهم التي هي خير القرون . و(ثالثاً) الجورب بيّن بنفسه في اللغة والعرف كما نقلنا معناه عن أئمة اللغة والفقه ، ولم يشرط أحد في مفهومه ومسماه نعلاً ولا ثخانة . وإذا كان موضوعه في الفقه واللغة مطلقاً فيصدق بالجورب الرقيق والغليظ والمنعل وغيره . والله أعلم .

                             ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية
قال رحمه الله في فتاويه : يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما سواء كانت مجلدة أو لم تكن في أصح قولي العلماء . ففي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه ، وهذا الحديث إذا لم يثبت فالقياس يقتضي ذلك ، فإن الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف وهذا من جلود . ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة ، فلا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً أو كتاناً أو صوفاً ، كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه ، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف ، فهذا لا تأثير له ، كما لا تأثير لكون الجلد قوياً ، بل يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى .
  وأيضاً فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء ، ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين المتماثلين ، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة وما أنزل الله به من كتبه وأرسل به رسله .
  ومن فرَّق بكون هذا ينفذ الماء منه وهذا لا ينفذ منه فقد ذكر فرقاً طردياً عديم التأثير ، ولو قال القائل يصل الماء إلى الصوف أكثر من الجلد فيكون المسح عليه أولى للصوق الطهور به أكثر ، كان هذا الوصف أولى بالاعتبار من ذلك الوصف وأقرب إلى الأوصاف المؤثرة ، وذلك أقرب إلى الأوصاف الطردية وكلاهما باطل .
  وخروق الطعن لا تمنع جواز المسح ، ولو لم تستر الجوارب إلا بالشد جاز المسح عليها ، وكذلك الزربول الطويل الذي لا يثبت بنفسه ولا يستر إلا بالشد أ. هـ.
  قال رحمه الله في فتوى أخرى : يجوز المسح على الزربول الذي يغطي الكعبين إذا ثبت بنفسه بلا شراع ، وإن كان لا يثبت إلا بالتزرير أو السيور يجوز المسح عليه أيضاً فإنه يستر محل الفرض بنفسه ، وهكذا الجورب الذي لا يثبت إلا بالخيوط ، ولو ثبت بشيء منفصل عنه كالجورب الذي لا يثبت إلا بالنعل فإنه يجوز المسح عليه سواء كان من لبد أو صوف أو قطن أو كتان أو جلود . ولا حاجة إلى اعتبار شروط لا أصل لها في الشرع ويعود على مقصود الرخصة بالإبطال . أهـ .
  وقال نوَّر الله ضريحه أيضاً في فتوى أخرى : يجوز المسح على اللفائف [53] وهو أن يلف على الرجل لفائف من البرد أو خوف الحفاء أو من جراح بها ونحو ذلك ، وهي بالمسح أولى من الخف والجورب ، فإن تلك اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة وفي نزعها ضرر إما بإصابة البرد أو التأذي بالحفاء وإما التأذي بالجرح ، فإذا جاز المسح على الخفين والجوربين فعلى اللفائف بطريق الأولى . اهـ .
  وقال نفع الله الأمة بعلومه في خلال فتوى له : معلوم أن البلاد الباردة يحتاج فيها من يمسح التساخين والعصائب – وهي العمائم – ما لا يحتاج إليه في أرض الحجاز ، فأهل الشام والروم ونحو هذه البلاد أحق بالرخصة في هذا وهذا من أهل الحجاز . ثم قال : فإن منعوا من المسح عليها ضيقوا تضييقاً يظهر خلافه للشريعة بلا حجة معهم أصلاً . أهـ . كلامه عليه رحمة الله ورضوانه .


                                     

الخـــاتمـــة
  لا يخفى أن الرخص المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي نعمة عظمى في كل حال وعلى أي حال ، وإنما يظهر تمام نعمة تشريعها في بعض الأحوال مثل رخصة المسح على الجوربين في أيام البرد وأوقات السفر وحالات المرض أو تشقق القدم أو قشف الرجلين أو تورمهما مما يعرض ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم السرية الذين شكوا إليه ما أصابهم من البرد أن يمسحوا على العصائب والتساخين كما قدمنا ، وقال من صحب عكرمة رضي الله عنه إلى واسط [54] ما رأيته غسل رجليه ، إنما يمسح عليهما حتى خرج منها : رواه ابن جرير في تفسيره .
  وتقدم عن البدائع للقاساني أن أبا حنيفة رضي الله عنه رجع إلى قول أبي يوسف ومحمد في المسح على الجوربين في آخر عمره ، وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه ثم قال لعوّاده : ( فعلت ما كنت أنهى الناس عنه ) فاستدلوا به على رجوعه .أهـ . ورجوع أبي حنيفة رضي الله عنه من فضله وإنصافه . وللمجتهدين من تغير الاجتهاد ، والرجوع إلى ما فيه قوة وسداد ، ما عرف عنهم أجمعين وعد من مناقبهم . ومن أكبر العبر – في هذه القصة – قصة رجوع الإمام أبي حنيفة – أن يرجع إمام ويصرح برجوعه ، ويأبى الدّ الخصوم الرجوع إلى الحق ولو تلي عليه من البراهين ما يلين له الحديد ، ويصدع الجلاميد . ولا غرو فالأئمة المجتهدون لهم من اللطف والكمال ومحاسن الأخلاق والإنصاف والاعتراف بالحق ما سارت به الركبان .
  وليعتبر أيضاً بالإمام الشافعي لما رحل من العراق إلى مصر وأعاد البحث في مذهبه القديم كيف رجع عن كثير من مسائله ، وعد ذلك من أسمى فضائله ، وسبب ذلك التقوى ، وإيثار الأخرى ، فإنها تزع المتقي عن إيثار الهوى والدنيا . وهكذا فعل الإمام أبو حنيفة في رجوعه إلى القول بالمسح على الجوربين .
  وقد يظن قوم أن التشدد في العزائم ومجافاة الرخص من التقوى ، وحاشا الله ، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)(الحديد: من الآية27) [55] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ) [56] وعنه صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى يحب أن تقبل رخصه كما يحب العبد مغفرة ربه ) [57] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته )[58] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( هلك المتنطعون ) [59].
  نعم يوجد من خيار العباد ، ذوي الجد والاجتهاد ، من لا يأخذون إلا بالعزائم ، لا زهداً في المأثور ، ولا رغبة في عن المرخص فيه المبرور ، بل تربية للنفس على الأفضل ، وأخذاً بها إلى الأمثل والأكمل ، وهو ما يسميه الفقهاء بالاحتياط ، والخروج من الخلاف ، إيثاراً لما يكون فيه إجماع وائتلاف . وأصله ما صح في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى ترم قدماه ، فقيل له : أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) ؟ .
  جعلنا الله من عباده الشاكرين ، وفقهنا في الدين ، وحشرنا مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، والحمد لله رب العالمين .

*        *        *
  قال مؤلفها ( محمد جمال الدين القاسمي ) : أعدت النظر على مسوّدتها ثم نقحتها إلى ما ترى ، وذلك في مجالس آخرها في ربيع الآخر عام 1332 بمنزلنا بدمشق الشام[60] ، والحمد لله ذي الجلال والإكرام .










                            
   

 تمام النُّصْح
في
أحكام المسْح

تأليف
محمد ناصر الدين الألباني





بسم الله الرحمن الرحيم
      أما بعـــــد ، فلما فرغت من التعليق على هذه الرسالة المباركة النافعة ، رأيت أن من تمام النفع بها ، أن أحذو حذو مؤلفها رحمه الله تعالى في تحقيق القول في مسائل يكثر الابتلاء بها ، والسؤال عنها ، ولها صلة وثقى بموضوعها ، ألا وهي :
  1 – المسح على النعلين .
  2 – المسح على الخف أو الجورب المخرق .
  3 – خلع الممسوح عليه هل ينقض الوضوء .
  4 – متى تبدأ مدة المسح ؟
  5 – انتهاء مدة المسح هل ينقض الوضوء ؟
  فأقول مستعيناً بالله وحده ، متوكلاً عليه :

1 – المسح على النعلين
  أما المسح على النعلين ، فقد اشتهر بين العلماء المتأخرين أنه لا يجوز المسح عليهما ، ولا نعلم لهم دليلاً على ذلك إلا ما قاله البيهقي في ( سننه ) (1/288) : (والأصل وجوب غسل الرجلين ، إلا ما خصته سنة ثابتة،أو إجماع لا يختلف فيه ، وليس على المسح على النعلين ، ولا على الجوربين واحد منهما . والله أعلم ) .
  كذا قال ، ولا يخفى ما فيه – مع الأسف – من تجاهل للأحاديث المتقدمة في الرسالة في إثبات المسح على الجوربين والنعلين ، وأسانيد بعضها صحيحة كما سبق بيانه ، ولذلك تعقبه التركماني الحنفي في ( الجوهر النقي ) فقال ( 1/288 ) : ( قلت : هذا ممنوع ، فقد تقدم أن الترمذي صحح المسح على الجوربين والنعلين وحسنه من حديث هزيل عن المغيرة ، وحسنه أيضاً من حديث الضحاك عن أبي موسى . وصحح ابن حبان المسح على النعلين من حديث أوس ، وصحح ابن خزيمة [61] حديث ابن عمر في المسح على النعال السبنية ، وما ذكره البيهقي من حديث زيد بن الحباب عن الثوري ( يعني بإسناده عن ابن عباس وقد مضى ) في المسح على النعلين حديث جيد ، وصححه ابن القطان عن ابن عمر .
  قلت : وإذا عرفت هذا ، فلا يجوز التردد في قبول هذه الرخصة بعد ثبوت الحديث بها ، لأنه كما قال المؤلف فيما سبق : ( وقد صح الحديث فليس إلا السمع والطاعة ) . لا سيما بعد جريان عمل الصحابة بها ، وفي مقدمتهم الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما تقدم وهو مما ذهب إليه بعض الأئمة من السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين . فقد قال ابن حزم رحمه الله تعالى في (المحلى)(2/103) : ( مسألة : فإن كان الخفان مقطوعين تحت الكعبين ، فالمسح جائز عليهما ، وهو قول الأوزاعي ، وروي عنه أنه قال : يمسح المحرم على الخفين المقطوعين تحت الكعبين ... وقال غيره : لا يمسح عليهما إلا أن يكونا فوق الكعبين).

                   2 – المسح على الخف أو الجورب المخرق
  وأما المسح على الخف أو الجورب المخرق ، فقد اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً ، فأكثرهم يمنع منه على خلاف طويل بينهم ، تراه في مبسوطات الكتب الفقهية ، و( المحلى ) . وذهب غيرهم إلى الجواز ، وهو الذي نختاره . وحجتنا في ذلك أن الأصل الإباحة ، فمن منع واشترط السلامة من الخرق أو وضع له حداً ، فهو مردود لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ) متفق عليه . وأيضاً فقد صح عن الثوري أنه قال : ( امسح عليها ما تعلقت به رجلك ، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخرقة ، مشققة ، مرقعة ؟ ) . أخرجه عبد الرزاق في ( المصنف ) (753) ومن طريقه البيهقي (1/283) .
  وقال ابن حزم (2/100) : ( فإن كان في الخفين أو فيما لبس على الرجلين خرق صغير أو كبير طولاً أو عرضاً فظهر منه شيء من القدم ، أقل القدم أو أكثرهما أو كلاهما ، فكل ذلك سواء ، والمسح على كل ذلك جائز ، ما دام يتعلق بالرجلين منهما شيء ، وهو قول سفيان الثوري ، وداود ، وأبي ثور ، وإسحاق ابن راهويه ، ويزيد بن هارون ) .
  ثم حكى أقوال العلماء المانعين منه على ما بينها من اختلاف وتعارض ثم رد عليها ، وبين أنها مما لا دليل عليها سوى الرأي وختم ذلك بقوله : ( لكن الحق في ذلك ما جاءت به السنة المبينة للقرآن من أن حكم القدمين اللتين ليس عليهما شيء ملبوس يمسح عليه أن يغسلا ، وحكمهما إذا كان عليهما شيء ملبوس أن يمسح على ذلك الشيء . بهذا جاءت السنة ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)(مريم: من الآية64) ، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمر بالمسح على الخفين وما يلبس في الرجلين ، ومُسِحَ على الجوربين – أن من الخفاف والجوارب وغير ذلك مما يلبس على الرجلين المخرق خرقاً فاحشاً أو غير فاحش ، وغير المخرق ، والأحمر والأسود والأبيض ، والجديد والبالي ، فما خص عليه السلام بعض ذلك دون بعض ، ولو كان حكم ذلك في الدين يختلف لما أغفله الله تعالى أن يوحى به ، ولا أهمله رسول الله صلى الله عليه وسلم المفترض عليه البيان ، حاشا له من ذلك ، فصح أن حكم ذلك المسح على كل حال ، والمسح لا يقتضي الاستيعاب في اللغة التي بها خوطبنا )  .
  وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( اختياراته ) (ص13) : ( ويجوز المسح على اللفائف في أحد الوجهين ، وحكاه ابن تميم وغيره ، وعلى الخف المخرق ما دام اسمه باقياً ، والمشي فيه ممكناً ، وهو قديم قولي الشافعي واختيار أبي البركات وغيره من العلماء ) .
  قلت : ونسبه الرافعي في ( شرح الوجيز ) (2/370) للأكثرية واحتج له بأن القول بامتناع المسح يضيق باب الرخصة ، فوجب أن يمسح . ولقد أصاب رحمه الله .

3 - خلع الممسوح عليه هل ينقض الوضوء ؟
  اختلف العلماء أيضاً فيمن خلع الخف ونحوه بعد أن توضأ ومسح عليه ، على أقوال ثلاثة :
  الأول : أن وضوءه صحيح ولا شيء عليه .
  الثاني : أن عليه غسل رجليه فقط .
  الثالث : أن عليه إعادة الوضوء .
  وبكل من هذه الأقوال قد قال به طائفة من السلف ، وقد أخرج الآثار عنهم بذلك عبد الرزاق في ( المصنف ) (1/210/809-813) وابن أبي شيبة (1/187-188) والبيهقي (1/289-290) .
  ولا شك أن القول الأول هو الأرجح ، لأنه المناسب لكون المسح رخصة وتيسيراً من الله ، والقول بغيره ينافي ذلك ، كما قال الرافعي في المسألة التي قبلها كما تقدم ، ويترجح على القولين الآخرين بمرجح آخر بل بمرجحين :
  الأول : أنه موافق لعمل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ، فقد قدمنا بالسند الصحيح عنه رضي الله عنه أنه أحدث ثم توضأ ومسح على نعليه ثم خلعهما ثم صلى .
  والآخر : موافقته للنظر الصحيح ، فإنه لو مسح على رأسه ثم حلق ، لم يجب عليه أن يعيد المسح بله الوضوء ، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقال في ( اختياراته ) (ص15) :
  ( ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما ، ولا بانقضاء المدة، ولا يجب عليه مسح رأسه ، ولا غسل قدميه ، وهو مذهب الحسن البصري ، كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد ، وقول الجمهور ) . وهو مذهب ابن حزم أيضاً ، فراجع كلامه في ذلك ومناقشته لمن خالف ، فإنه نفيس . ( المحلى )(2/105-109) : وأما ما  رواه ابن أبي شيبة (1/187) والبيهقي (1/289) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يمسح على خفيه ثم يبدو له أن ينزع خفيه ، قال : يغسل قدميه .
ففيه يزيد بن عبد الرحمن الدالاني قال الحافظ : صدوق يخطيء كثيراً ، وكان يدلس .
  وروى البيهقي عن أبي بكرة نحوه .

  ورجاله ثقات غير علي بن محمد القرشي ، فلم أعرفه .
  ثم روي عن المغيرة بن شعبة مرفوعاً : ( المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليها للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم ما لم يخلع ) . وقال : ( تفرد به عمر بن رُدَيْح ، وليس بالقوي ) .
  قلت :  هذه الزيادة ( ما لم يخلع ) منكرة لتفرد هذا الضعيف بها ، وعدم وجود الشاهد لها .

4 – متى تبدأ مدة المسح ؟
  للعلماء في هذه المسألة قولان معروفان :
  الأول : أنها تبدأ من الحدث بعد اللبس .
  والآخر : من المسح بعد الحدث .
  وقد ذهب إلى الأول أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأصحابهم ، ولا نعلم لهم دليلاً يستحق الذكر إلا مجرد الرأي ، ولذلك خالفهم بعض أصحابهم كما يأتي ، ولا علمت لهم سلفاً من الصحابة بخلاف القول الثاني ، فإمامهم الأحاديث الصحيحة ، وفتوى عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
  أما السنة ، فالأحاديث الصحيحة التي رواها جمع من الصحابة في صحيح مسلم والسنن الأربعة والمسانيد وغيرها ففيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح ، وفي بعضها رخص في المسح ، وفي غيرها : جعل المسح للمقيم يوماً وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، ومن الواضح جداً أن الحديث كالنص على ابتداء مدة المسح من مباشرة المسح ، وهو كالنص أيضاً على رد القول الأول لأن مقتضاه كما نصوا عليه في الفروع أن من صلى الفجر قبيل طلوع الشمس ، ثم أحدث عند الفجر من اليوم الثاني ، فتوضأ ومسح لأول مرة لصلاة الفجر ، فليس له المسح بعدها ! فهل يصدق على مثل هذا أنه مسح يوماً وليلة ؟! أما على القول الثاني الراجح فله أن يمسح إلى قبيل الفجر من اليوم الثالث . بل لقد قالوا أغرب مما ذكرنا : فلو أحدث ولم يمسح حتى مضى من بعد الحدث يوم وليلة أو ثلاثة إن كان مسافراً انقضت المدة ولم يجز المسح بعد ذلك حتى يستأنف لبساً على طهارة [62] . فحرموه من الانتفاع بهذه الرخصة ، بناء على هذا الرأي المخالف للسنة ! ولذلك لم يسع الإمام النووي إلا أن يخالف مذهبه – وهو الحريص على أن لا يخالفه ما وجد إلى ذلك سبيلا- لقوة الدليل ، فقال رحمه الله تعالى بعد أن حكى القول الأول ومن قال به (1/478) : ( وقال الأوزاعي وأبو ثور : ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث ، وهو رواية عن أحمد وداود ، وهو المختار والراجح دليلاً ، واختاره ابن المنذر ، وحكى نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وحكى الماوردي والشاشي عن الحسن البصري أن ابتداءها من اللبس ، واحتج القائلون من حين المسح بقوله صلى الله عليه وسلم : ( يمسح المسافر ثلاثة أيام ) . وهي أحاديث صحاح كما سبق ، وهذا تصريح بأنه يمسح ثلاثة ، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت المدة من المسح ، ولأن الشافعي رضي الله عنه قال : إذا أحدث في الحضر ومسح في السفر أتم مسح مسافر فعلق الحكم بالمسح . واحتج أصحابنا برواية رواها الحافظ القاسم بن زكريا المطرزي في حديث صفوان : ( من الحدث إلى الحدث ) وهي زيادة غريبة ليست ثابتة ، وبالقياس ... ) .
  قلت : إن القياس المشار إليه ، لو كان مسلماً بصحته في نفسه ، فشرط قبوله والاحتجاج به إنما هو إذا لم يخالف السنة ، أما وهو مخالف لها كما رأيت فلا يجوز الالتفات إليه ولذلك قيل : إذا ورد الأثر بطل النظر ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل . فكيف وهو مخالف أيضاً لقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، وعهدي بالمقلدين أن يدعوا الأخذ بالسنة الصحيحة حين تخالف قوله رضي الله عنه ، كما فعلوا في الطلاق الثلاث ، فكيف لا يأخذون به حين وافق السنة ؟! فقد روى عبد الرزاق في ( المصنف ) (1/209/807) عن أبي عثمان النهدي قال : (حضرت سعداً وابن عمر يختصمان إلى عمر في المسح على الخفين ، فقال عمر : يمسح عليهما إلى مثل ساعته من يومه وليلته ) .
  قلت : وإسناده صحيح على شرط الشيخين ، وهو صريح في أن المسح يبتدئ من ساعة إجرائه على الخف إلى مثلها من اليوم والليلة . وهو ظاهر كل الآثار المروية عن الصحابة في مدة المسح فيما علمنا ، مما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في ( المصنف ) . وعلى سبيل المثال ، أذكر ما رواه ابن أبي شيبة (1/180) عن عمرو ابن الحارث قال : ( خرجت مع عبد الله إلى المدائن فمسح على الخفين ثلاثاً لا ينزعهما ) . وإسناده صحيح على شرط الشيخين .
  فقد اتفقت الآثار السلفية ، مع السنة المحمدية على ما ذكرنا ، فتمسك بها تكن بإذن الله مهدياً .  

                             5 – انتهاء مدة المسح هل ينقض الوضوء ؟
  للعلماء في ذلك أقوال أشهرها قولان في مذهب الشافعي :
  الأول : يجب استئناف الوضوء .
  الثاني : يكفيه غسل القدمين .
  والثالث : لا شيء عليه ، بل طهارته صحيحة يصلي بها ما لم يحدث . قال النووي رحمه الله . قلت : وهذا القول الثالث أقواها ، وهو الذي اختاره النووي خلافاً لمذهبه أيضاً فقال رحمه الله (1/527) : ( وهذا المذهب حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وقتادة وسليمان بن حرب ، واختاره ابن المنذر ، وهو المختار الأقوى ، وحكاه أصحابنا عن داود ) .
  قلت : وحكاه الشعراني في ( الميزان ) (1/150) عن الإمام مالك وحكى النووي عنه غيره فليحقق . وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية كما تراه في كلامه السابق في المسألة الثالثة ( ص92) تبعاً لابن حزم ، وذكر هذا في القائلين به إبراهيم النخعي وابن أبي ليلى ، ثم قال (2/94) : ( وهذا هو القول الذي لا يجوز غيره ، لأنه ليس في شيء من الأخبار أن الطهارة تنتقض عن أعضاء الوضوء ولا عن بعضها بانقضاء وقت المسح ، وإنما نهى عليه السلام عن أن يمسح أحد أكثر من ثلاث للمسافر أو يوم وليلة للمقيم . فمن قال غير هذا فقد أقحم في الخبر ما ليس فيه ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل . فمن فعل ذلك واهماً فلا شيء عليه ، ومن فعل ذلك عامداً بعد قيام الحجة عليه فقد أتى كبيرة من الكبائر ، والطهارة لا ينقضها إلا الحدث ، وهذا قد صحت طهارته ، ولم يحدث فهو طاهر ، والطاهر يصلي ما لم يحدث أو ما لم يأت نص جلي في أن طهارته انتقضت وإن لم يحدث . وهذا الذي انقضى وقت مسحه لم يحدث ولا جاء نص في أن طهارته انتقضت لا عن بعض أعضائه ولا عن جميعها ، فهو طاهر يصلي حتى يحدث ، فيخلع خفيه حينئذٍ وما على قدميه ويتوضأ ثم يستأنف المسح توقيتاً آخر ، وهكذا أبداً . وبالله تعالى التوفيق ) .
          بيروت 8/12/1370                               محمد ناصر الدين الألباني


الفهرس
مقدمة العلامة  أحمد شاكر 
ترغيب الشيخ محمد نصيف بطبعها
تحقيق شاكر لحديث ثوبان
تحقيق شاكر لحديث المغيرة
كلام الإمام ابن القيم على حديث المغيرة
تكلف المباركفوري الحنفي لتضعيف الحديث
تحقيق شاكر لحديث أبي موسى
إيراد شاكر لحديث أنس وتصحيحه
لا يشترط بالخف أن يمنع وصول الماء
مقدمة الشيخ جمال الدين القاسمي
مردُّ الأحكام الشرعية إلى الكتاب
الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الجوربين
ردُّ الشبه عن هذه  الأحاديث
ثبوت سماع راشد بن سعد من ثوبان
الحجة في قول الرسول صلى الله عليه  العموم لا السبب
لا شذوذ في حديث المغيرة
كل علم يرجع فيه إلى ذوي الاختصاص
رد اشتراط  متابعة المشي بالخفين
تعريف الحديث المتلقى بالقبول
ردالاعتراض على حديث أبي موسى
بيان أن الجورب معروف في اللغة والشرع 
ذكر من روي عنهم المسح على الجوربين من الصحابة 
ما روي عن أعلام الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من جواز المسح
على الجوربين وإن كانا رقيقين
أقوال الصحابة أولى بالأخذ
مذاهب الصحابة أوثق نقلاً من أقوال الأئمة
المذاهب ممن جاء بعدهم
من روي عنه المسح من التابعين
أقوال الفقهاء المشهورين في المسح على الجوربين
مذهب المالكية
ما روي عن الإمام الشافعي وأصحابه
مذهب الحنفية
مذهب الحنابلة
ما قاله ابن رشد المالكي
مذهب الظاهرية
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية
خاتمة الشيخ جمال الدين القاسمي

فهرس
رسالة تمام النصح
في أحكام المسح
رسالة الألباني تمام النصح في أحكام المسح
المسح على النعلين
المسح على الخف أو الجورب المخرق
خلع الممسوح عليه هل ينقض الوضوء
متى تبدأ مدة المسح
انتهاء مدة المسح هل تنقض الوضوء



1 وقد جدد طبعه المكتب الإسلامي ( بالأوفست ) بعد إضافة فهرس هجائي هام له بقلم محمد ناصر الدين الألباني
1 قلت : وابن خزيمة أيضاً في صحيحه ( رقم 198 – طبع دار القلم في بيروت ) وكذا ابن أبي شيبة في المصنف ( 1 – 188 ) والطحاوي في مشكل الآثار ( 1- 97 طبع القاهرة ) .
1 قوله و( يمنع وصول الماء إليها ) قلت : لعل هذا القول سبق قلم من العلامة أحمد شاكر رحمه الله ، فإنه ليس في أثر أنس المذكور هذا القيد أو الشرط ، بل هو أعم من ذلك بدليل أن الصوف لا يمنع وصول الماء إلى القدم كما هو معلوم بالتجربة . فأرى أن الصواب حذف هذا القول من سياق كلام العلامة رحمه الله ، لأنه لا دليل عليه كما سبق ، ولأنه أليق بموضوع رسالة العلامة القاسمي رحمه الله تعالى الذي اختار جواز المسح على الجورب الرقيق – وهو الحق . وهذا القول ينافيه كما لا يخفى .
1 أي تغيره وقذره ، يأتي القشف بمعنى ذلك كما في ( القاموس ) ومنه استعير للمرض المعروف في جلد اليدين والقدمين أيام قرس البرد وكأنه يغير الجلد ويقذِّره .  
1 خالف الشيعة في هذا ، فلم يجوزوا المسح على خف ولا جورب ولا تساخين .
1 انظر المسند 5/275 وقد طبعه المكتب الإسلامي طباعة أنيقة في ست مجلدات .
2 بالزاي كزبير ، تابعي أدرك الجاهلية ( قاموس ) .
[8] براء ثم زاي كجعفر ، تابعي ( قاموس )
1 قلت : وهذا الإمكان متحقق فقد ذكر البخاري أن راشد بن سعد شهد صفين مع معاوية ومن المعلوم أن وقعة صفين كانت سنة (36) . ووفاة ثوبان سنة (54) . فقد عاصره (18) سنة . وإذا تذكرنا أن العلماء وثقوه – دون خلاف يذكر ، وأنه لم يرم بالتدليس ، ينتج من ذلك أن الإسناد متصل وأن إعلاله بالانقطاع مردود لأنه قائم على مذهب من يشترط في الاتصال ثبوت السماع . وهو مرجوح كما أشار إليه المؤلف رحمه الله تعالى . ومما يقوي ما ذكرنا أن البخاري أثبتَ سماع راشد من ثوبان كما تقدم في كلام أحمد شاكر رحمه الله تعالى ، وذلك دليل قاطع على لقيه إياه ، لأن البخاري رحمه الله تعالى من القائلين باشتراط ثبوت السماع في الاتصال وأنه لا يكفي فيه المعاصرة فتأمل .
2 قلت : بعد أن عرفتَ صحة إسناد الحديث واتصاله ، فلا أرى من المفيد التوسع في تطريق الاحتمالات البعيدة في سبيل الدفاع عنه فإن المتقرر في علم المصطلح هو أن الحديث المنقطع من أنواع الحديث الضعيف ، لجهالة الراوي الساقط ولا أعلم أحداً من المصنفين في المصطلح صرَّح بقبول مراسيل الثقات هكذا مطلقاً بل فيه خلاف مشهور مذكور في محله وما ذكره من الأحاديث المنقطعة في ( مسلم ) لا ينفي القدح المذكور ما دام أنه تبين وصلها من وجه آخر ، وإلا فلولا ذلك لثبت القدح فتأمل .
1 قلت : لا شك عند العارفين بهذا العلم الشريف أن في ( أبي داود ) ما إسناده صحيح ، وإنما ينبغي النظر فيما اشتهر عند المتأخرين أن ما سكت عنه أبو داود فهو صالح للاستدلال به كما تقدم عند المؤلف ، فاعلم أن قول أبي داود : ( ... فهو صالح ) كما نقله ( التدريب ) يحتمل أنه صالح للاحتجاج به . وعليه جرى النووي . ويحتمل أنه يعني : أنه صالح للاستشهاد به لأنه ليس شديد الضعف ، وهو الذي اختاره أمير المؤمنين في الحديث الحافظ العسقلاني ، وهو الصواب الذي أراه لأمور كثيرة لا مجال لذكرها الآن ، ولكن من لفت النظر إلى قول أبي داود : ( وما كان فيه وهن شديد بيَّنته ) . فإن مفهومه أن ما كان فيه وهن غير شديد لا يبينه ، أي يسكت عنه ، فينتج من ذلك أن هذا هو المراد بقوله بعد : ( وما لم يذكر فيه شيء فهو صالح ) . فتأمل وتحرَّ الصواب ، ولا تغتر بما اشتهر بين الناس .
1 عن الجوهر النقي للمارديني صفحة 74 .
2 قلت : هذا الوجه من الجواب لا يستقيم إلا لو كان الترمذي وابن حبان من الأئمة المتثبتين في التصحيح مثل الإمام أحمد ومسلم وغيرهما ممن ضعفوا الحديث ، ففي هذه الحال تصح المعارضة ويسلم الجواب من الاعتراض لتأخر الترمذي عنهم ، ووقوفه على ما أعلوه به ، وأنه لايقدح . ولكن لما كان الترمذي ومثله ابن حبان معروفاً بالتساهل في التصحيح حتى قال الذهبي في ترجمة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وقد نقل عن الترمذي أنه صحَّح حديثاً له مع أنه متهم عند الشافعي وغيره ، قال الذهبي : ( ولذلك لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي ) .
       قلت : فإذا كان الحال ما ذكرنا فالجواب ضعيف ، ولكن الحديث صحيح الإسناد ، وما أعلُّوه به مردود كما بيَّنه المصنف في الجواب الثاني ، وأحسن منه بيان الشيخ أحمد المتقدِّم ص 5/10 فقد أجاد كل الإجادة في الردِّ على الذين أعلُّوه بالشذوذ والنكارة جزاه الله خيراً . وخلاصة ذلك : أن هزيل بن شرحبيل الثقة الذي روى عن المغيرة المسح على الجوربين لا يجوز أن يقال إنه خالف الثقات الذين رووا عنه المسح على الخُفَّين ، إلا إذا كانت الحادثة واحدة ، فحينئذٍ يرد حديث هزيل بالمخالفة والشذوذلعدم إمكان الأخذ بالروايتين ، ففي حديث الجماعة عنه : أنه صلى الله عليه وسلم مسح في السفر ، وليس هذا في حديث هزيل ، فدلَّ ذلك على أنهما حادثتان مغايرتان وأن الجماعة روت ما لم يرو هزيل ، وهذا روى ما لم يرو الجماعة ، فليس من الشذوذ بسبيل ، ورحم الله الشافعي إذ قال : وليس الحديث الشاذ أن يروي الثقة ما لم يرو الثقات ، وإنما أن يروي ما يخالف فيه الثقات . انظر ( اختصار علوم الحديث ) للحافظ ابن كثير .
      ومن الغريب أن الإمام مسلماً الذي أعلَّ الحديث بالشذوذ والمخالفة هو نفسه لما أخرج حديث المسح على الخفين في السفر من طريق الجماعة عن المغيرة ، أخرجه أيضاً من طريق أخرى عنه فزاد فيه المسح على العمامة فعلى طريقته في إعلال حديث هزيل بمخالفته للثقات ، كان ينبغي أن يعلَّ حديث العمامة أيضاً ، بل هو بالإعلال عنده أولى لأنها زيادة في نفس حديث الجماعة ، أعني في السفر ، وليس ذلك عن حديث هزيل !
3 في الجوهر النقي طبع حيدر آباد الدكن صفحة 74 .
1 صفحة 14 – 15 من ( تدريب الراوي  ) .
2 قلت : أهل مكة أدرى بشعابها ، فالاعتماد إنما هو على المحدثين لأنه علمهم الذي اختصوا به ، فهم أعرف به من غيرهم ، وكل علم يرجع فيه إلى ذوي الاختصاص والإتقان فيه ، والمحدِّثون اتفقوا على اشتراط السلامة من الشذوذ في الحديث الصحيح ، كما هو معروف من كتبهم ، والمتتبع الطرق في دوواين السنة يجد غير قليل من الأحاديث اختلف الرواة الثقات في ضبط متونها اختلافاً لا سبيل للأخذ بجميع وجوه الاختلاف فيها ، بل لا بد من ترجيح بعضها على بعض ، فالراجح هو المحفوظ ، والمرجوح هو الشاذ ، وهو من أنواع الحديث الضعيف ، وحديث المسح على الجوربين صحيح سالم من الشذوذ كما تقدَّم بيانه ، لذلك فلا مجال للأخذ بتشكيك من وهم ، ورمي الحديث بالشذوذ ، فهو حديث صحيح محفوظ اتفق المحدثون على سلامته .
1   هي العدالة ، والضبط ، والسلامة من الشذوذ والعلَّة .
  2 في الرد على من أباح المسح على الجورب الرقيق ( المتقدم ذلك في عبارته )
1 يعني الحنفية الذين يروون بعض الأحاديث بآرائهم ، انتصاراً منهم لأقوال أئمتهم ، وتجد بعض الأمثلة على ذلك في كتابي ( أحكام الجنائز وبدعها ) في بحث الصلاة على الميت وغيره . ولا أبريء غيرهم من مثله كما تراه في تأول أصحاب النووي لهذا الحديث الصحيح ، وقد أحسن المصنف رحمه الله تعالى في الردِّ عليهم أثابه الله تعالى .
2 جمع الجوامع في بحث خبر الآحاد .
3 كانت في الأصلين ( من الصحابة عن عمر ) ولعل الصواب ما ذكرنا . ( ز )
4 تدريب صفحة 15 .
5 إعلم أن ( ال ) في قوله ( الناس ) للعهد ، لا للاستغراق فلا يدخل فيه غير أهل العلم بالحديث ، فكم من حديث تلقاه الفقهاء أو غيرهم بالقبول ، وهو منكر مردود عند علماء الحديث مثل حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . الحديث فإنه منكر كما قال إمام الأئمة البخاري رحمه الله تعالى ، وهو مخرج عندي في  ( سلسلة الأحاديث الضعيفة ) . ثم إنه لا يكفي القيد السابق وهو ( أهل الحديث ) ، بل لا بد أن يضم إليه قيد آخر ألا وهو اتفاقهم عليه ، كما يشير إليه ما نقله السيوطي في التدريب ( 1/67) عن الاسفرايني أنه قال : ( تعرف صحة الحديث إذا اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم ) .
6 قلت : مفهومه أنه لا بد أن يكون له إسناد ما ، ولكن لا يجوز أن يكون ضعيفاً جداً كما يشير إليه كلام أبي الحسن بن الحصار الآتي في الكتاب فالحديث المتلقى بالقبول لايكون صحيحاً إلا إذا كان له إسناد صالح للاعتبار به . فهو الذي يتقوَّى بالتلقي . فاحفظ هذا فإنه مهم جداً .
1 ص 28 تقريب ، وشرحه التدريب .
2 قلت : قد عرفت مما سبق أن الحديث المتلقى بالقبول لا يكون صحيحاً إلا بشرطين . أحدهما أن يشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم . وهذا الحديث وإن كان إسناده صحيحاً عندنا فقد أنكره من عرفت من كلام المؤلف والشيخ أحمد شاكر . وحينئذٍ لا أرى أن يقال : إنه مما تلقي بالقبول . بل منهم من قبله ومنهم من ردَّه . والحق مع الأولين قطعاً . والحجة إسناده الثابت . نعم يعضده ويزيده قوة جريان عمل الصحابة عليه  ، كما سيأتي .
1 قلت : وسنده عن البيهقي ( 1/285 ) جيد ، والتعقب الآتي عن المارديني قوي جداً .
1 قلت : وأولى من هذا التأويل أن يقال : على نعليه وقدميه . فإنه الموافق للرواية الأولى حرفياً . 
          ثم اعلم أن هذه الأحاديث الثلاثة هي في الحقيقة حديث واحد ، اختلف الرواة في لفظه والمؤدى واحد ، وهو جواز المسح على النعلين ، ولو لم يكن معهما الجوربان . وهو حديث صحيح أخرجه من ذكرهم المصنف وغيرهم كالطيالسي في ( مسنده ) ، (1113)وابن أبي شيبة في ( المصنف ) (1/190) والبيهقي (1/286-287) ، وقد تكلمت على إسناده في صحيح أبي داود .
2 قلت : وأخرجه ابن خزيمة أيضاً في ( صحيحه ) (1/101/201 ، ورجاله ثقات غير شيخ ابن خزيمة أبي زهير عبد المجيد بن إبراهيم المصري فإني لم أجد له ترجمه كما قلت في تعليقي عليه . وأقول الآن : لعل الطبراني رواه من غير طريقه ؟ ولا أطول الآن ( معجمه ) حتى أراجع إسناده فيه .
        وتأويل الحديث كالذي قبله : أي مسح على نعليه ورجليه .
3 قلت : ورجاله ثقات ، ولكنه شاذ فإن الثقات الحفاظ من أصحاب الأعمش رووه بلفظ ( خفيه ) بدل ( نعليه ) كما قال ابن جرير الطبري نفسه (10/78) وهذا هو المحفوظ المخرج في ( الصحيحين ) وغيرهما ، وفيما تقدم وما يأتي غنية عنه .
4 ص 46 .
5  قلت : أخرجه في (سننه الكبرى) (1/287) من طريق ابن خزيمة وهذا أخرجه في (صحيحه) (رقم199) وسنده صحيح كما قلت في التعليق عليه ، وأزيد هنا فأقول : له طريق أخرى عن ابن عمر نحو رواية البزار . أخرجه الطحاوي في (شرح المعاني)(1/97) ورجاله ثقات معروفون غير أحمد بن الحسين اللهبي وله شاهد من = حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ، ومسح على نعليه . أخرجه عبد الرزاق في (المصنف)(رقم783) والبيهقي (1/286) من طريقين عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عنه . وهذا إسناد صحيح غاية ، وهو على شرط الشيخين .
1 قلت : في إسناده عند الدارمي (1/181) أبو إسحاق السبيعي وهو ليس مع اختلاطه ، وقد رواه عبد خير معنعناً ! وخالفه خالد بن علقمة الهمداني – وهو ثقة – فرواه عن عبد خير بلفظ غسل رجله اليمنى ثلاثاً ورجله الشمال ثلاثاً . أخرجه أبو داود وغيره . إسناده صحيح ، وصححه ابن حبان _رقم150- موارد ) ، وقد خرجته في ( صحيح أبي داود) .
2 الأصل : ( رجليه ) والتصحيح من ( صحيح ابن خزيمة ) .
3 قلت : في إسناده عند ابن خزيمة (200) متروك ، ولكنه قد توبع كما بينته في التعليق عليه ، وقد أخرجه ابن خزيمة في ( صحيحه )(202) وكذا النسائي وابن حبانمن طريق أخرى عن علي لكنه قال: ( رجليه ) مكان ( نعليه ) وقد عرفت بأوله (152) وإسناده صحيح على شرط البخاري وقد أخرجه في (صحيحه) – الأتربة – لكنه لم يصرح بالمسح .
4 قلت : يعني أن هذا الوضوء كان نفلاً غير واجب لأنه لم يكن من حدث يدل عليه ما ترجم به ابن خزيمة للحديث فقال : ( باب ذكرالدليل على أنه مسح النبي صلى الله عليه وسلم على النعلين كان في وضوء متطوع به ،لا في وضوء واجب عليه من حدث يوجب الوضوء ) . قلت : ما ترجم به للحديث واجب لا غبار عليه ، ولكنه قد صح عن علي رضي الله عنه أنه مسح على نعليه في الوضوء الواجب بعد الحدث كما يأتي ، فيجب حينئذٍ فهم هذا الحديث أنه للطاهر لا لأنه مسح على النعلين ، وإنما لأنه توضأ وضوءاً خفيفاً ، ويؤيده أن في الطريق الأخرى ( أنه مسح وجهه وذراعه ) فهذا المسح لا يجوز في الفرض قطعاً ، فهو الذي عناه بقوله : هكذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم للطاهر ...وكيف يجوز حمله على المسح على النعلين ، وقد ثبت عن  النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه عديدة دون تفريق بين النفل والفريضة . بل ثبت ذلك عن راوي الحديث نفسه في الفرض نصاً ، وهو ما أخرجه الطحاوي في ( شرح معاني الآثار ) (1/97) بسند صحيح عن أبي ظبيان أنه رأى علياً رضي الله عنه بال قائماً ن ثم دعا بماء فتوضأ ، ومسح على نعليه ثم دخل المسجد فخلع نعليه ثم صلى . وأخرجه عبد الرزاق في ( المصنف )(783-784) وابن أبي شيبة أيضاً (1/190)والبيهقي (1/288) منطرق عن أبي ظبيان وهو الجنبي كما في رواية لعبد الرزاق ، واسمه حصين بن جندب الكوفي وهو ثقة من رجال الشيخين ، وقد تابعه غير واحد عن علي مختصراً في ( المصنفين ) .
1 ( تدريب ) ص 113 .
2 ( تدريب ) 113 .
1 قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث المهذّب : وفي الباب عن بلال ، أخرجه الطبراني بسندين أحدهما ثقات .
 2 قلت : هذا القيد ( مما يبلغ فوق الكعبين ) لا أعلم له دليلاً ، ثم هو مخالف لقول ابن حزم نفسه في مكان آخر من ( المحلى ) (2/103) : وسأذكر نصه في الملحق بآخر الرسالة .  

3 بضم الجيم وتخفيف اللام .
4 قلت : هذه الآثار أخرجها عبد الرزاق في ( المصنف ) ( رقم 745-773-779-781-782) وابن أبي شيبة أيضاً في ( المصنف ) (1/188) والبيهقي (1/285) وكثير من أسانيدها صحيح عنهم . وبعضهم له أكثر من طريق واحد ، ومن ذلك طريق قتادة عن أنس أنه كان يمسح على الجوربين مثل الخفين . وسنده صحيح . رواه عبد الرزاق (779) ، وهو عند ابن ابي شيبة (1/188) مختصراً . وعندهما من طريق يحي البكاء قال : سمعت ابن عمر يقول : المسح على الجوربين كالمسح على الخفين . وتلقي نافع ذلك عنه فقال : هما بمنزلة الخفين . أخرجه ابن أبي شيبة بسند حسن عنه وكذلك قال إبراهيم النخعي أخرجه بسند صحيح عنه .
    قلت : فبعد ثبوت المسح على الجوربين عن الصحابة رضي الله عنهم : أفلا يجوز لنا أن نقول فيمن رغب عنه ما قاله إبراهيم هذا في مسحهم على الخفين : ( فمن ترك ذلك رغبة عنه ، فإنما هو من الشيطان ) . رواه ابن أبي شيبة ( 1/180) بإسناد صحيح عنه .
1 شرح خليل للحطاب جزء (1) ص 31 .
1 وهذا ما وقع عند طبع كتاب ( الأم ) للشافعي ، فقد احتاجوا إلى جمع أجزائها من مختلف البلدان . وقس على كتاب الأم أمثاله من مؤلفات الأئمة .
2 ص 49 .
1 يعني صاحب ( الطبقا ت الكبرى ) .
 2 أعلام الموقعين جزء 1 صفحة 75 .
2 قلت : أخرجه ابن أبي شيبة (1/189) عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ونافع وإبراهيم وتقدم لفظهما قريباً ، وعن عطاء قال : ( المسح على الجوربين بمنزلة المسح على الخفين ) . وسنده صحيح .
1 المجلد هو أن يضع الجلد على أعلاه وأسفله ، والمنعل هو الذي يوضع على أسفله جلدة كالنعل للقدم .أ هـ .
2 أي يرى ما تحتهما – من بشرة الرجل – من خلالهما .
3 إن كان أراد إجماع أئمة السلف والخلف فباطل ، فقد نقل الإمام النووي في شرح المهذب جواز المسح على الجوربين وإن كانا رقيقين عن أميري المؤمنين عمر وعلي رضي الله عنهما وإسحاق وداود ، بل نقل حكايته أيضاً عن أبي يوسف ومحمد كما رأيت من قبل . ثم هو مذهب الإمام ابن حزم كما سيأتي ، فكيف يصح دعوى الإجماع ؟ وإن كان أراد إجماع الحنفية فقد يسلم ، لكن حكاية النووي عن الصاحبين يدفعه أيضاً ، فقد اتضح أن لا إجماع في الباب ، فاحتفظ بهذا .
4 حدُّ الثخانة أن يربط على الساق من غير أن يقوم بشيء . أهـ . حدادي .
5  وقد أفتى أستاذنا الشيخ جميل الشطي ، وهو آخر من تولى الإفتاء من الحنابلة في بلاد الشام . بجواز المسح على الجوارب المستعملة الآن . وقد نشرها في المجلات والجرائد ( زهير ) .
1 أعلام الموقعين جزء 1 صفحة 299 .
  1 كذا في المحلى ( 2/ 87 )
1 أقول : اللفائف يشملها عمومحديث ثوبان المتقدم أنه عليه السلام أمرهم بالمسح على التساخين ،قد أسلفنا أن التساخين لغة كل ما يسخن به القدم فتذكر . أهـ . جمال الدين .
2 أي في سفره إليها ، فتأمل ترخصه هذا في سفره . والسفر محل الرخص ، واعجب من فقهه وعلمه رضي الله عنه .
 1 رواه أبو داود عن أنس رضي الله عنه . جمال الدين .
 2  رواه الإمام أحمد عن ابن عمر ، والطبراني عن ابن عباس وابن مسعود . جمال الدين . قلت وهو حديث صحيح مخرج في ( إرواء الغليل ) (557) .
 3 رواه الطبراني عن أبي الدرداء وواثلة وأبي أمامة وأنس . جمال الدين . قلت : وإسناده ضعيف كما هو مبين في المصدر السابق ، وفي ( الأحاديث الضعيفة ) أيضاً (508) .
 4 رواه الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي عن ابن عمر . جمال الدين . قلت : وهو مخرج في المصدر السابق ، وفي (تخريج الطحاوية )(218) .
  5  رواه الإمام مسلم عن ابن مسعود . جمال الدين .

5 وكان منزله في قصر حجاج قرب جامع حسان بطريق الميدان بين باب الجابية والسويقة .
1 ( صحيح ابن خزيمة ) ص 100 طبع المكتب الإسلامي .
1 ذكره النووي في المجموع ( 1/486 )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ألعاب زمان

قد يستحقر البعض أساليب اللعب زمان . ولكن بشئ من الإنصاف يمكن أن نعدد من المزايا التى فى تلك الألعاب بما يصعب حصره . وهنا نترك لكم ف...