الحد الفاصل بين الصمت والكلام
إن الصمت أحسن بالرجل من الهذر في منطقه، والكلام فيما لا يعنيه، والتسرع إلى ما يكون على وجل منه.
وقد قال بعض الشعراء:
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته مــن فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرجـــل تبرا على مهـــــل
وقال أبو العتاهية:
إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزاً ... فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز
يخوض أناس فــــي المقال ليوجزوا ... وللصمت عن بعض المقالات أوجز
وقال أيضاً:
قد أفلح الساكت الصموت ... كلام راعي الكلام قوت
ما كـــل نطــــق له جواب ... جواب ما تكره السكوت
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليسكت، وقال: من صمت نجا.
وكان أعرابي يجالس الشعبي يطيل الصمت، فقال له يوماً: لم لا تتكلم؟ فقال: أسمع لأعلم وأسكت فأسلم.
وقال أبو هريرة: ثمرة القلب اللسان. وقال بعض الشعراء:
تعاهد لسانك إن اللسا ن... سريع إلى المرء في قتله
وهذا اللسان بريد الفؤا د... يدل الرجال عــــلى عقله
وقال أبو العتاهية:
لا خير في حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عيونه
والصمت أجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه
وقال لقمان لابنه: يا بني إن غلبت على الكلام، فلا تغلب على الصمت، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول. إني ندمت على الكلام مراراً ولم أندم على الصمت مرة واحدة
وقال إبراهيم بن المهدي في هذا المعنى فأحسن:
إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأخيارا
ولئن ندمت على سكوتك مرة ... فلقد ندمت على الكلام مرارا
إن السكوت سلامة ولربما ... زرع الكلام عداوة وضرارا
فحقيق على الأديب أن يخزن لسانه عن نطقه، ولا يرسله في غير حقه، وأن ينطق بعلم، وينصت بحلم، ولا يعجل في الجواب، ولا يهجم على الخطاب. وإن رأى أحداً هو أعلم منه، نصت لاستماع الفائدة عنه، وتحذر من الزلل والسقط، وتحفظ من العيوب والغلط، ولم يتكلم فيما لا يعلم، ولم يناظر فيما لا يفهم، فإنه ربما أخرجه ذلك إلى الانقطاع والاضطراب، وكان فيه نقصه عند ذوي الألباب. وقد قال الأعور الشني فأجاد:
ألم ترَ مفتاح الفـــــــؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول مـــــن الفم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكـــــلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وكان يقال: لسانك عبدك، فإذا تكلمت صرت عبده.
وقال بعض الحكماء: أنا بالخيار ما لم أتكلم، فإذا تكلمت صار الكلام علي بالخيار.
وقال آخر: لساني في حبس بدني ما لم أطلقه على نفسي، فإذا أطلقته صار بدني في حبس لساني.
وقال آخر: الكلمة أسيرة في وثاق الرجل، فإذا تكلم بها صار في وثاقها.
وقال الشعبي: أنا على اتباع ما لم أوقع أقدر مني على ردّ ما أوقعت.
وتكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات، خرجن كلهن بمعنى.
فقال كسرى: أنا على قول ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.
وقال قيصر: لا أندم على ما لم أقل، فإنما أندم على ما قلت.
وقال ملك الصين: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، ولم أملكها.
وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة إن حكيت عنه ضرته، وإن لم تذكر لم تنفعه.
ولئن كان السكوت جميلاً، لقد جعل الكلام جليلاً، ما لم يتعد المتكلم في كلامه، ويتجاوز في الكلام حدّ نظامه.
وقد أنشد أحمد بن يحيى :
ما في الكلام على الأنام أثام، ... بل فيه عندي النقــــض والإبرام
لولا الكلام لما تبينا الهـــــدى، ... وتعطلت فـــي ديننا الأحـــــكام
فزن الكلام، إذا أردت تكلما، ... ودع الفضول، ففي الفضول ملام
إن أنت لم ترشد أخــــــــاك، إذا أتى، ... فعليك منه هجنة وأثـــام
والنطق أفضل من صمات متهم، ... جاء الكتـــاب بذاك، والإسلام
هذا البيان، فلا تكن متمارياً، ... فالصمت عيٌّ، والكـــــــــلام نظام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق