الخميس، 24 ديسمبر 2009

غزوة الخندق

غزوة الخندق


غدر الأعراب بدعاة المسلمين:
في صَفَر من السنة الرابعة الهجرية بعد أربعة أشهر من موقعة أُحُد، قَدِم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفدٌ من عَضَل والقَارَة، يطلبون منه أن يبعث معهم نفرًا من المسلمين يُفَقِّهُونهم في الدين، فأرسل معهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ستةً من كبار أصحابِه، ولكن الوفد عندما وصل إلى ماءٍ لهُذَيل بالحجاز بموضع يسمَّى الرَّجِيع، غَدَر بدعاة المسلمين واستصرَخ عليهم هُذَيلاً، فقاتل دعاة المسلمين دفاعًا عن أنفسهم، فاستشهد أربعةٌ منهم وأَسَروا اثنين بَاعَتْهم هُذَيل لقريش، فقتَلتهم.

وفي نفس الشهر قَدِم أبو براءٍ عامرُ بن مالكٍ -مُلاَعِب الأَسِنَّة- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعَرَض الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- عليه الإسلام ودعاه إليه، فلم يُسْلِم ولم يبعد، ثم قال: يا محمد، لو بعثتَ رجالاً من أصحابِك إلى أهل نجار، فدعوهم إلى أمرك، رجوتَ أن يستجيبوا لك، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: إني أخشى عليهم أهلَ نجدٍ، فقال أبو براء: أنا لهم جارٌ، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.

اطمأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى إجارة أبي براء لهم وأرسل معه سبعين رجلاً يُسَمَّون القرَّاء، وأَمَّر عليهم المُنْذِر بن عمرو الساعدي، فساروا حتى نزلوا ببئرِ مَعُونَة بين أرض بني عامر وحَرَّة بني سُلَيم، وأرسلوا حرامَ بنَ مِلْحَان إلى عامر بن الطُّفَيل بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم ينظر عامرٌ في الكتاب، بل عدا على الرجل، فقتله واستصرخ بني عامر؛ ليقتلوا المسلمين فلم يجيبوه؛ حتى لا يُخْفِروا ذِمَّة أبي براء، فاستصرخ ابنُ الطُّفَيل قبائلَ من بين سُلَيم من عُصَيَّة ورِعْلٍ وذَكْوَان، فأجابوه وخرجوا إلى المسلمين فقتلوهم، ولم يَنْجُ منهم إلا كعبُ بن زيد الذي تُرِك وبه رَمَق فَشُفِي من جراحه، وعمرو بن أمية الضمري الذي أخذ أسيرًا فجزَّ عامر ابنُ الطفيل ناصيتَه وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمِّه.

وأثناء عودة عمرو إلى المدينة تمكَّن من قتل رجلين من بني عامر حَسِب أنهما من القوم الذين عَدَوا على أصحابه، فلما قدم عمرو بن أُمَيَّة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بما فعَل، قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: ((لقد قتلت قَتِيلينِ لأَودِيَنَّهما))؛ لأنه كان معهما عقد جِوَار من رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وقد حَزِن الرسول والمسلمون لما أصاب أصحابهم في الرَّجيع وبئر مَعُونَة، وقال الرسول: ((هذا عمل أبي براء، قد كنتُ لهذا كارهًا متخوفًا))، وظل -عليه الصلاة والسلام- شهرًا كاملاً يدعو على مَن قتلهم، فيقول بعد الركعة من الصبح: ((اللهم اشدد وطْأتك على مُضَر، اللهم اجعلها سنين كسِنِي يوسف، اللهم عليك ببني لحيان، وعضل، والقَارَة، وزغب، ورعل، وذكوان، وعُصَيَّة؛ فإنهم عصوا الله ورسوله))[1].

اللقاء الثاني بين المسلمين واليهود:
كان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يَدِيَ قتيلي بني عامر الذين عَدَا عليهما عمرو بن أمية خطأً من غير أن يعلم أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أجارهما، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه بعض أصحابه، فصلى في مسجد قُبَاء، ثم ذهب إلى بني النَّضير يستعينهم في دِيَة ذَيْنِك القتيلين، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم ما أحببتَ.

وكانت طبيعة الغدر في اليهود تحرَّكت في قلوبهم ورأوا أن يتخلَّصوا من الإسلام بالقضاء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخلا بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنكم أن تجدوا هذا الرجل على مثل حاله هذه -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم- قاعدًا إلى جنب جدار من بيوتهم - فمن الذي يعلو على هذا البيت، فيُلقي عليه صخرة، فيُريحنا منه؟

وقَبِل عمرو بن جِحاش النضري أن يقوم بهذه الخيانة، فحذَّرهم سلاَّم بن مِشْكَم وبيَّن لهم أن الله يخبره بما همُّوا به، ووضَّح لهم النتائج الخطيرة التي تترتب على مؤامرتهم من نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، ولكنهم تمادَوا في غيِّهم، وصَعَد ابن جِحاش ليرتكب جريمته، فتدخلت عناية الله، فأخبرت الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما أراد القوم، فنهض -عليه الصلاة والسلام- مسرعًا كأنه يريد حاجة، ثم توجَّه الرسول إلى المدينة، فلما طال مُكْثُه وخاف اليهود من الغدر بأصحابه؛ حتى لا ينتقم الرسول منهم، ورجوا ألا تكون مؤامرتهم قد كُشِفت، فيبقى العهد قائمًا بينهم وبين المسلمين، ولما استبطأ أصحاب الرسول عودته، فقاموا في طلبه، فأخبرهم رجل مقبل من المدينة بأنه شاهده داخلاً المدينة.

عند ذلك أسرع أصحاب الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالعودة إلى المدينة والتقوا بالرسول في المسجد، فأخبرهم بأن اليهود أرادوا الغدر به، وأن ذلك نقض منهم لعهدهم.

واستدعى الرسول -صلى الله عليه وسلم- محمد بن مَسلمة وأرسله إلى يهود بني النضير؛ ليقول لهم: "اخرجوا من بلدي، فلا تساكنوني بها، وقد هَمَمْتم بما همَمتم به من الغدر، وقد أَجَّلْتُكم عشرًا، فمن رُئِي بعد ذلك، ضربت عنقه"[2]، فقال اليهود لابن مَسْلَمة: يا محمد، ما كنا نظن أن يجيئَنا بهذا رجل من الأَوْس، فقال محمد: تغيَّرت القلوب ومحا الإسلام العهود[3] بينا وبينكم خاصة، وقد نقضتم العهد الذي عقده الرسول -صلى الله عليه وسلم- معكم.

أُسْقِط في يد اليهود وأخذوا يستعدُّون لمغادرة ديارهم، إلا أن المنافقين تدخلوا ليحرِّضوهم على عدم الخروج، فقد أرسل إليهم شيخ المنافقين عبدالله ابن أُبَيٍّ يقول: "لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا في حصنكم؛ فإنَّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم، فيموتون عن آخرهم، وتمدُّكم قُرَيظة وحلفاؤكم من غطفان.

وقد بعث هذا العرضُ الأملَ عند اليهود في البقاء ومقاومة المسلمين، إلا أن كعب بن أسد صاحب عهد بني قُرَيظة قال: لا ينقض العهدَ رجل من بني قريظة وأنا حي، فقال سلاَّم بن مِشْكَم لِحُيَي بن أَخْطَب سيِّد بني النضير: يا حُيَي، اقبَل هذا الذي قال محمد، فإنما شَرُفْنا على قومِنا بأموالنا، قبل أن تقبل ما هو شرٌّ منه.

قال: وما هو شرٌّ منه؟ قال: أخذ الأموال، وسَبْي الذرية، وقتل المُقاتِلة، ولكنَّ حُيَيًّا لم ينصت إلى نصيحة سلاَّم بن مِشْكَم، وأرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك".

وعندما بلغ ذلك الرسول -عليه الصلاة والسلام- كبَّر وكبَّر المسلمون معه، وقال: حاربتُ يهودًا، وأمر المسلمين بالاستعداد لحربهم، وخرج إليهم في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة، فصلَّى العصر بأصحابه في فضاء بني النَّضِير، وعلي بن أبي طالب يحمل رايته، فلما رأى اليهود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاموا على حصونهم معهم النَّبْل والحجارة، واعتزلتهم قريظة فلم تُعِنْهم، وخذلهم "ابن أُبَيٍّ" وحلفاؤهم من غطفان، فَأَيِسُوا من النصر وقذف الله الرعب في قلوبهم، فحاصرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ست ليال، وأمر بقطْع نخيلهم؛ حتى يقطع أملهم في التعلق بأموالهم أو يزداد تحمسُّهم للقتال، وانقطع أملهم في نصرة "ابن أُبَيٍّ" وغيره ممن كانوا يرجون نصرتهم، وملأ اليأس قلوبهم من سوء مصيرهم، فأرسلوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يقولون: نحن نخرج من بلادك، فقال: لا أقبله اليوم، ولكن أخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة، فرضِي اليهود بذلك، وحملوا النساء والصِّبيان على ستمائة بعير، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى أَذرعات بالشام.

وقَبَض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأموال والحلقة، فكانت خمسين درعًا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفًا، بالإضافة إلى الأرض التي لم تعتبر من أسلاب الحرب، بل فيئًا خاصًّا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضعه حيث يشاء، فقسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سَهْل بن حُنَيف وأبا دُجانة سِمَاك بن خَرَشة" ذَكَرا فقرًا فأعطاهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يُسْلِم من بني النضير إلا رجلان أسلما على أموالهما، فأحرزاها.

وكان لانتصار المسلمين على يهود بني النَّضِير وتمكُّنهم من إجلائهم عن المدينة، أثر كبير في استقرار الأمن في المدينة، وقطْع عوامل الفتنة التي كان يُثيرها اليهود ومن يعاونهم من المنافقين[4].

وقد أنزل الله -عز وجل- في جلاء بني النَّضِير سورة الحشر بأسرها، فبيَّنت ما حلَّ بهم من نقمة الله حتى خَرَّبوا ديارهم بأيديهم؛ ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].

ثم صوَّرت الآياتُ وعدَ المنافقين لليهود بالنصرة وجُبْن المنافقين عن تنفيذ عهدهم، ثم رهبة اليهود من المسلمين وأسلوبهم في مقاتلة عدوِّهم، وما يظهر عليهم من تجمعٍ وهم في الحقيقة متفرِّقون؛ ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ * لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحشر : 11 - 14].

غزوة الخندق
بعد إجلاء بني النضير قام الرسول -عليه الصلاة والسلام- بعدَّة غزوات سريعة؛ ليثبِّت فيها سلطان المسلمين، وليقضي على كل تجمُّع يتربص بالمسلمين الدوائر، أو يحاول العدوان على المدينة، وكانت يقظة الرسول -عليه الصلاة والسلام- وحَذره وحرصه على تقصي أخبار أعدائه، تُمكنه من القضاء في يُسر على هذه التجمُّعات؛ حيث كان يَفْجَؤهم في عُقر ديارهم قبل أن يهاجموه في المدينة.

فقام الرسول -عليه الصلاة والسلام- في هذه الفترة بغزوة ذات الرقاع إلى بني مُحارب وبني ثَعْلَبة من غَطفان في نجد، وبغزوة دومة الجندول[5] على أطراف الشام، وغزوة المُريسيع إلى بني المُصطلق، وأثناء ذلك وَفَى المسلمون بعهدهم مع أبي سفيان، فخرجوا إلى "بدر" الموعد تنفيذًا لموعد أبي سفيان عقب أُحُد باللقاء في بدر من العام القادم، فخرج المسلمون إليها وأقاموا عليها ثمانية أيام، ونكثت قريش عن الموعد، فلم تستطع مواصلة السير إلى بدر، بعد أن خرجت من مكة لمقاتلة المسلمين لجَدْب حلَّ بهم، وحاولوا أن يَثنوا المسلمين عن الخروج إلى بدر، ولكن فشِلت محاولتهم، وأدَّى ذلك إلى رفع شأن المسلمين وخِذْلان قريش؛ مما دعاها إلى الكيد والتهيؤ لغزة الخندق[6].

تجمُّع الأحزاب:
بينما كانت قريش تشعر بالخزي لتخلُّفها عن الوفاء بوعدها في الخروج إلى بدر لكساد اقتصادها في ذلك العام - وَاتَتْها الفرصة لتسترد كرامتها وتُعْلِي شأنها بين العرب، وذلك عندما تتمكن من إلحاق هزيمة ساحقة بالمسلمين لا يقوم لهم قائمة من بعدها، وكانت الفرصة هي قدوم زعماء اليهود من بني النَّضِير وبني وائل - فيهم سلامة بن الحقيق، وحُيَي بن أخطب النَّضْرِيَّان، وأبو عمار الوائلي، وغيرهم إلى قريش في مكة، فألَّبوهم على حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاهدوهم ووعدوهم لذلك موعدًا، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.

وأحبَّت قريش -بعد خوضها عدَّة حروب ضد المسلمين- أن تستوثق من صحة عقيدتها، فقالت لزعماء اليهود: إنكم أهل الكتاب الأوَّل، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفدِينُنا خير أم دينه؟ فقال زعماء اليهود: بل دينكم خير من دينه، أنتم أولى بالحق منه[7].

وهكذا يملأ الحقدُ نفوسَ زعماء اليهود ضد المسلمين؛ حتى يُفْتُوا قريشًا الوثنية بأن دينها خير من دين المسلمين الذين يعترفون بموسى نبيًّا، ويدعون إلى التوحيد في عقيدتهم، ولكنَّ حقد اليهود على المسلمين جعلهم يفضِّلون الوثنية على التوحيد، وصدق الله إذ يقول: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة : 82].

وقد تحدَّث القرآن عن هذه الواقعة لاعنًا اليهود، فقال:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ﴾...إلخ [النساء : 51 - 52].

وبعد أن اطمأنَّ زعماء اليهود إلى عزم قريش على الخروج إلى المدينة، وضربوا لذلك موعدًا، ذهبوا إلى غطفان من قيس غيْلان فحرَّضوهم على حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبروهم أنهم سيكونون معهم، وأن قريشًا قد تابعوهم على ذلك، وبسطوا لغطفان في الآمال، فوعدوهم -متى تم النصر- ثمار سنة كاملة من ثمار مزارع خيبر وحدائقها[8]، فأجابوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وتجهَّزت قريش، فخرجت وقائدها أبو سفيان، ومعهم الأحابيش ومَن تبِعهم من العرب، فكانوا أربعة آلاف، معهم ثلاثمائة فرس وألف وخمسمائة بعير، وخرجت غطفان وقائدها عُيينة بنُ حِصْن في بني فَزَارة ومعهم ألف بعير، وأَشْجَعُ يقودهم مسعود بن رُخَيلة في أربعمائة، وبنو مُرَّة يقودهم الحارث بن عوف في أربعمائة، وبنو أسد يقودهم طُلَيحة الأَسَدي، وبنو سُلَيم في سبعمائة يقودهم سفيان بن عبدشمس في سبعمائة، فكان مجموعُ جند الأحزاب عشرةَ آلاف، والقيادة العليا لأبي سفيان بن حَرْب[9].

الرسول - عليه الصلاة والسلام - يستشير أصحابه ويستعد للقاء الأحزاب:
لا شك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يحذِّر أعداءه وخاصة قريشًا واليهود، ويحاول استقصاء أخبارهم، ويتتبَّع تنقُّلات اليهود ومحاولتهم إثارة أعداء المسلمين عليه، فلما تيقَّن الرسول من تجمع الأحزاب وتواعُدهم على حربه، جَمَع المسلمين، وأخبرهم بما أجمع عليه عدوُّهم، وشاوَرهم في أمرهم، فقال سلمان الفارسي: "يا رسول الله، إنا كنا إذا حُوصِرنا، خندقنا علينا، فأَعْجَب ذلك الاقتراحُ المسلمين، ووافقوا عليه، فبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخط الخندق من أُجُم الشيخين طرَف بني حارثة حتى بلغ المَذاد، ثم قطعه أربعين ذراعًا بين كل عشرة من المسلمين الذين بلغ تَعداد جيشهم في غزوة الخندق ثلاثة آلاف، وهكذا يستخدم المسلمون في غزوة الأحزاب سلاحًا دفاعيًّا جديدًا لحمايتهم، لم يتَّخذه العرب من قبلُ.

وأقبل المسلمون من المهاجرين والأنصار يَجِدُّون في حفر الخندق في غَدَاة باردة، ولم يكن لهم عبيد يساعدونهم في الحفر، فلما رأى الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما بهم من النَّصَب والجوع، قال مشجعًا لهم: اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة، فأثار ذلك حماسهم.

فقالوا مجيبين الرسول -عليه السلام-:
نحن الذين بايعوا محمدا     على الجهاد ما بقينا أبدا

وشاركهم الرسول -عليه السلام- في الحفر، وحمل التراب، حتى وارى التراب بياضَ بطنه، وكان يَرتجز بكلمات عبدالله بن رواحة، فيقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا   ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا         وثبت الأقدان إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا      وإن أراد فتنة أبينا( 10 )


وقد بذل المسلمون كلَّ جهدهم وطاقتهم في سبيل حفر الخندق؛ حتى ينتهوا منه قبل قدوم عدوهم إليهم، فتمَّ حفره في سرعة مذهلة في ستة أيام، ثم شبكت جدران المنازل بالنيان حتى صارت المدينة كالحصن، وأُخلِيَت المنازل التي ظلت فيما وراء الخندق، وأحضر النساء والأطفال إلى المنازل التي حُصِّنَت، ووضعوا الحجارة إلى جانب الخندق من ناحية المدينة؛ لتكون سلاحًا يُرمى به عند الحاجة.

بداية الحصار:
أقبلت قريش ومعها الأحزاب في عشرة آلاف جندي، وهي تظن أنها ستقضي على المسلمين في ساعة من نهار، فنزلت بمجتمع الأسيال من رُوْمة، ونزلت غَطفان ومَن تَبِعهم من أهل نجد بذَنَب نقمى إلى جانب أُحد، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضَرَب عسكره هنالك والخندق بينه وبين الأحزاب[11].

عَجِبت جموع المشركين من السلاح الجديد الذي استخدمه المسلمون، وقالوا: هذه مكيدةٌ ما كانت العرب تصنعها، ثم أخذوا يحاولون عبور الخندق، فلم يستطيعوا ليقظةِ المسلمين وسهرِهم على حماية الخندق، ورَمَى المهاجمون بالسهام وطال الحصار، وشَعُر المشركون بالسَّأْم والعجز عن التغلُّب على المسلمين، ولكنَّ بعض فرسان المشركين تمكَّنوا من عبور الخندق من مكان ضيق، فأسرع فرسان المسلمين إليهم؛ حيث تمكَّن علي بن أبي طالب من قتل فارس فرسان قريش عمرو بن عبدودٍّ بعد مبارزة رهيبة، وهوى بعضهم في الخندق بفرسه، وأُرْغِم الباقي على الفرار.

بنو قريظة ينقضون العهد:
كادت الأحزاب أن تَمَلَّ المُقام حول المدينة والجو قارسٌ، حتى يتمكَّنوا من تحقيق آمالهم وأطماعهم، وهنا تحركت طبيعة الغدر في نفس حُيَي بن أَخْطَب النضري، فذهب إلى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قُرَيظة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محاولاً حمله على نقض عهده، فلما سمع كعبٌ بِحُيَي بن أخطب أغلق دونه باب حصْنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له، فناداه حُيَي: ويحك يا كعب، افتح لي، قال: ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمدًا، فلستُ بناقضٍ ما بين وبينه، ولم أَرَ منه إلا وفاءً وصدقًا، قال: ويحك، افتح لي أُكَلِّمك، قال: ما أنا بفاعل، قال: والله ما أغلقت دوني إلا عن جَشِيشتك[12] أن آكل معك منها، فأُحْفِظ[13] الرجلُ، ففتح له، فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعزِّ الدهر وببحر طامٍ[14]، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتُهم بمجتمع الأسيال من رُوْمة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذَنَب نقمى إلى جانب أُحُد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يَبرحوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه، فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام[15] قد هَراق ماؤه، فهو يَرْعد ويَبْرُق ليس فيه شيء، ويحك يا حيي، فدعني وما أنا عليه، فإني لم أَرَ من محمد إلا صدقًا ووفاءً، فلم يزل حُيَي بكعبٍ يَفتله في الذِّرْوة والغَارِب[16] حتى سمَح له، على أن أعطاه عهدًا من الله وميثاقًا، لئن رَجَعَت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدًا، أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنَقَض كعبُ بن أسد عهدَه وبَرِئ مما كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم[17].

أثر نقض العهد في صفوف المسلمين والمنافقين:
وصلت أنباءُ نقض قُرَيْظَة للعهد وانضمامهم إلى الأحزاب رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فبعث سعد بن معاذ سيد الأَوْس، وسعد بن عُبادة سيد الخَزرج، وعبدالله بن رواحة، وخَوَّات بن جُبَير إلى بني قُريظة؛ ليستجلوا حقيقة الأمر على أن يَلْحَنوا [18] به عند عودتهم إن كان حقًّا، فذهب الوفد إلى بني قريظة فوَجَدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، حتى نالوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَن رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، فشاتَمهم سعد بن معاذ وشاتَموه، ولكن الأمر كان أعظم من المشاتمة، وعاد الوفد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأفادوه بنقض العهد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين)).

وعَظُم عند ذلك البلاء واشتدَّ الخوف والكرب بين المسلمين، وأتاهم عدوُّهم من كل جانب، ونَجَم النفاق من بعض المنافقين، وصوَّر القرآن هذا الموقف العصيب الذي حلَّ بالمسلمين، فقال: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴾ [الأحزاب : 10 - 13].

وبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحذِّر بني قُريظة مثل بقية الأحزاب، فبعث سَلَمة بن أَسْلَم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل، يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير خوفًا على الذَّراري من بني قُريظة[19]، واشتدَّ الكرب على المسلمين، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو على المشركين يوم الأحزاب، فيقول: ((اللهم مُنزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم))[20].

الرسول - عليه الصلاة والسلام - يحاول رد غطفان عن الحصار:
اشتدَّ الأمر على المسلمين وطال الحصار حتى قارَب الشهر، فأراد الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن يخذِّل بين الأحزاب، فيصرف بعضهم عن هذا الحصار المُحكم، فبعث إلى عُيَيْنة بن حِصْن والحارث بن عَوْف قائدي غَطفان، على أن يرجعا عن المدينة ويعطيهما ثُلث ثمار المدينة، ودارت المفاوضة حول ذلك؛ حيث أرسل عُيَيْنة يقول: إن جعلتَ لي الشطر، فعلتُ، وكاد أن يتمَّ الأمر، إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى أخذ رأي سعد بن معاذ وسعد بن عُبَادة في هذا الأمر، فأدْليا برأيهما في صراحة ووضوح يدل على فَهمهما العميق لحقيقة تصرُّف الرسول -عليه الصلاة والسلام- وأن هناك من الأشياء ما يمكن معارضتها ما دامت ليست شرعًا، كما توضِّح هذه الحادثة أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- برأي أصحابه عندما يستشيرهم، وحكمة سعد في ردِّه مع التصميم العميق على الدفاع عن الوطن وحقوقه حتى آخر رَمَق، فقد أجاب السعدان الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما استشارهما، فقالا له: يا رسول الله، أمرًا نحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرَك الله به لا بد من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالَبوكم[21] من كل جانب، فأردتُ أن أكسِر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرًى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزَّنا بك وبه، تعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ((فأنت وذاك))، فتناول سعد الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا[22].

الحرب خدعة:
وكانت بدايةُ نصر الله في هزيمة الأحزاب متمثلةً في إسلام رجل من المشركين، تمكَّن من إيقاع الفُرْقة بين هذه الجموع المحتشدة، وبثَّ في صفوفهم الريبة والشك؛ حتى تفرَّقت كلمتهم، وأصبح كل حزب غير مطمئنٍّ إلى الحزب الآخر، ذلك الرجل هو نُعيم بن مسعود الغطفاني الذي أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعملوا بإسلامي، فمُرني بما شئتَ، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل[23] عنا إن استطعت، فإن الحرب خُدْعَة))، فخرج نُعَيم بن مسعود حتى أتي بني قريظة -وكان نديمًا لهم في الجاهلية- فقال لهم: يا بني قريظة، قد عَرَفتم وُدِّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقتَ، لستَ عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشًا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشًا وغطفان ليسوا كهيئتكم، البلد بلدكم، به أموالك وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم وبلدهم بغيره، فليسوا كهيئتكم، إن رأوا نُهْزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك، لحقوا ببلادهم وخلَّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم؛ حتى تأخذوا منهم رهنًا من أشرافهم يكونون بأيديكم، ثقة لكم على ألا تقاتلوا معهم محمدًا حتى تُناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونُصح.

ثم خرج حتى أتى قريشًا، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش، قد عرَفتم وُدِّي إياكم وفراقي محمدًا، وقد بلغني أمر رأيتُ حقًّا على أن أُبلغكموه نصحًا لكم، فاكتموا عليَّ، قالوا: نفعل، قال: فاعلموا أن معشر يهود قد نَدِموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: أن قد نَدِمنا على ما فعلنا، فهل يُرْضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم، فنُعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بَقِي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنًا من رجالكم، فلا تَدفعوا إليهم منكم رجلاً واحدًا.

ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليَّ، ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا عليَّ، قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذَّرهم ما حذَّرهم، فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان مما صنع الله -عز وجل- لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قُريظة عِكْرِمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مُقام، قد هلك الخُفُّ والحَافِر، فاغدوا للقتال حتى نُناجز محمدًا، ونَفْرُغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئًا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثًا، فأصابه مالم يَخْفَ عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم، تعطونا رهنًا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقةً لنا حتى نناجز محمدًا، فإننا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال، أن تشمِّروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمدٍ، فلما رَجَعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: تعلمون والله أنَّ الذي حدَّثكم نُعَيْم بن مسعود لَحَقٌّ، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحدًا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال، فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة -حين عَلِمَت بقول قريش وغطفان-: إنَّ الذي ذَكَر لكم نُعَيْم بن مسعود لَحَقٌّ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك، انسحبوا إلى بلادهم وخلَّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسَلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنًا، فأبوا عليهم، وخذَّل الله بينهم[24].

نصر الله:
بعد أن أوقع الله الفُرْقة بين الأحزاب -فتصدَّعت قوَّتهم وتفرَّقت كلمتهم، ودبَّ الشك والرِّيبة في قلوبهم، فوَهنت عزائمهم، وتبدَّدت الآمال أمامهم بسبب كلمات قالها رجل هداه الله إلى الإيمان- جاء نصر الله الكامل؛ ليقضي على كل آمال المشركين واليهود الذين تجمَّعوا؛ ليجتثوا الإسلام من أساسه، ويقضوا عليه في موطنه.

وفي الكون أشياء أوجدها الله، يستغلُّها الإنسان وينتفع بها مثل الشمس وغيرها - فإننا نعرف أن حرب رمضان سنة 1393هـ، بدأت بعد الظهر بينما يكون ضوء الشمس في وجه الأعداء، ويسدِّد المصريون الضربات إلى اليهود والشمس في وجههم، هذا أمر موجود استغله المصريون أثناء العبور، والإنسان يحاول دائمًا استغلال الطقس والانتفاع بالوقت؛ لما يكون فيهما من حرارة أو غيرها.

وفي غزوة الخندق كان هناك عامل من هذه العوامل، ذلك عندما اشتدت الظلمات على المسلمين، وبلغت قلوبهم الحناجر، وابتُلي المؤمنون وزُلْزِلوا زلزالاً شديدًا، فإذا بالرياح الهوجاء تعمل عملها، وجنود الله التي لا تُرَى تبعث الخوف والفزع والرعب في قلوب الأحزاب، فلا يقرُّ لهم قِدْر، ولا تقوم لهم نار، ولا يتمسك لهم خِبَاء، فهُتِكَت القِبَاب وطارت الأوتاد.

ولم تكن شدَّة الريح على جيش الأحزاب وحده، وإنما كانت كذلك على المسلمين، وقد عانوا منها إلا أنهم صبروا، وقد صوَّر حُذَيفة بن اليَمَان ليلة الأحزاب هذه، فقال: "ما أتت علينا ليلة قطُّ أشد ظلمة ولا أشد ريحًا منها، في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يَرَى أحدنا إِصْبَعه"[25]، وكان ذلك نعمة من الله، فيها نصرُ الله وصِدْق وعدِه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب : 9]

عند ذلك وقف أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مُقَام، لقد هلك الكُرَاع والخُفُّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نَكْرَه، ولَقِينا من هذه الريح ما ترون، فارتحِلوا، فإني مُرْتَحِل[26]، وقام طُلَيحة بن خُوَيلد فنادى: إن محمدًا قد بدأكم بِشَرٍّ، فالنجاةَ النجاةَ[27]، وانطلقوا راجعين بخُفَّي حُنَين، وتبدَّد الحصار عن المدينة.

وفي الصباح انصرف الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه راجعين إلى المدنية متوَّجين بنصر الله.

وهكذا صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده.

ونحن المسلمين ما دمنا نؤمن بأن الله هو الخالق والمتصرف في الكون، فإننا نؤمن أيضًا بأنه ينصر أتباع الحق، المتمسِّكين به والمدافعين عنه، بكل طاقتهم عندما يشتد عليهم الباطل.

فكانت الريح والجنود -التي لا تُرَى- مُرسلة من الله لكسْر شوكة الباطل، ورفع راية الحق؛ ﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب: 25].

وقد استشهد من المسلمين يوم الخندق ستة رجال، وقُتِل من المشركين ثلاثة رجال[28].

اللقاء الثالث بين المسلمين واليهود:
نصر الله المسلمين في الخندق، وانسحبت قريش وغَطَفان دون أن تحقق الهدف الذي قَدِموا من أجله، وكان الوضع السليم بالنسبة لبني قريظة -بعد خيانتها للمسلمين بنقض عهدِهم، وتآمُرِهم مع قريش وغَطَفان في العلم على استئصال المسلمين- أن ترحل معهم عند رحيلهم؛ لأنهم حاربوا المسلمين، بذلك كان نقض بني قريظة للعهد، وانضمامهم إلى الأحزاب أَنْكَى وأشد على المسلمين من قدوم قريش وغطفان.

لذلك كان واجب المسلمين يحتِّم عليهم أن يعاقبوا بني قريظة على خيانتهم، وأن يُنْزِلوا بهم الجزاء الذي كان سيحل بالمسلمين لو تمكَّنت الأحزاب من الانتصار على المسلمين، وهو القتل والسَّبْي والاستئصال الذي جاءت الأحزاب من أجله، وانضمت بنو قريظة إليهم في سبيل تحقيق هدفهم.

أَمَا وقد رجعت الأحزاب ولم تَلْحَق بهم بنو قريظة، فليُنْزِل المسلمون ببني قريظة من العقاب ما يتفق مع غدرهم بالمسلمين، جزاءً وفاقًا لبني قريظة على نقضْهم عهد رسول -صلى الله عليه وسلم- وخيانتهم.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن اليهود هم الذين أَلَّبوا الأحزاب حتى قَدِموا إلى المدينة، تبيَّن لنا مدى الجُرْم الذي ارتكبه اليهود في حق المسلمين؛ ولذلك بعد ظهيرة اليوم الذي رجع فيه المسلمون من الخندق، ورغم الجهد والمشقة والنَّصَب والكَرْب الذي لاقَوه في الخندق، فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلالاً فنادى في الناس: من كان سامعًا مطيعًا، فلا يُصَلِّيَنَّ العصر إلا في بني قريظة، ودفع الرسول -عليه الصلاة والسلام- الراية إلى علي بن أبي طالب، فتقدم بها نحو بني قريظة، وتَبِعه المسلمون الذين بلغ عددهم ثلاثةَ آلاف، وكان معهم ستة وثلاثون فرسًا، وعندما قَرُب علي بن أبي طالب من حصون بني قريظة سمِع منها مقالة قبيحة يوجِّهونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرَجَع علي إلى الرسول، فقال: يا رسول الله، لا عليك أَلا تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: ((لِمَ؟ أظنك سمعتَ منهم لي أذًى؟))، قال: نعم يا رسول الله، قال -عليه الصلاة والسلام-: ((لو رأوني، لم يقولوا من ذلك شيئًا))، فلما دنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حصونهم، قال: ((يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟))، قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولاً[29].

ثم شدَّد المسلمون الحصار على بني قريظة؛ حتى أيقنوا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير منصرف عنهم حتى يُناجزهم، فقال رئيسهم كعب بن أسد لهم: "يا معشر يهود، إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثًا، فخذوا أيها شئتم؟ قالوا: وما هن؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدِّقه، فوالله لقد تبيَّن لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي كنتم تَجدونه في كتابكم، فتأمَنوا على دمائكم وأموالكم، وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدًا، ولا نستبدل به غيره، قال: فإذا أبيتم هذه عليَّ، فهَلُّم فلنَقْتُل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مُصْلِتِينَ السيوفَ، ولم نترك وراءنا ثقلاً يَهمنا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلِك، نهلِك، ولم نترك وراءنا شيئًا نخشى عليه، وإن نَظْهر، فَلَعَمرِي لَنَجِدَن النساء والأبناء، قالوا: نقتل هؤلاء المساكين، فما يَخِير العيش بعدهم؟! قال: فإذا أبيتم هذه عليَّ، فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أَمَّنُوا فيها، فانزلوا لعلَّنا نصيب من محمد وأصحابه غِرَّة، قالوا: نُفْسِد سَبْتَنا، ونُحْدِث فيه مالم يَخْفَ عليك، قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا"[30].

وهذا العرض من كعب بن أسد يبيِّن عنادَ اليهود ضد الإسلام، وإعراضهم عنه مع معرفتهم أنه الدين الحق، ثم خوفَهم على ذريَّتهم وتشبُّثَهم بالحياة؛ حتى لا يقاتلوا قتال اليائس منها، وأخيرًا يعرض عليهم سيِّدهم مخالفةَ دينهم الذي يتمسكون به، ولكن اليهود لم يتابعوه في واحدٍ منها، فيئِس منهم رئيسهم، ونفى عنهم صفة الحزم.

ودام حصار المسلمين خمسًا وعشرين ليلة، وقَذَف الله الرعب في قلوب اليهود، فأرسلوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُنْزِلهم على حكمه، وهنا تقدَّمت الأوس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يَهِبَهم لهم، وكانوا حلفاءهم، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- أَلاَ ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم، قالوا: بلى، قال: فذاك إلى سعد بن معاذ.

وأحضر سعد، وكان جريحًا يعالج في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما حضر، قال له قومه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ولاَّك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمتُ؟ قالوا: نعم، قال: وعلى مَن ها هنا؟ في الناحية التي فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مُعْرِض عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إجلالاً له، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم))، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تُقْتَل الرجال، وتُقَسَّم الأموال، وتُسْبَى الذَّرَارِي والنساء"[31].

وهكذا قدَّر سعد جريمة بني قريظة، فحكم فيهم بما يتناسب مع جريمتهم، وقد أيد الرسول -عليه الصلاة والسلام- هذه الحكم، فقال لسعد: ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أَرْقِعَة))[32].

ونفَّذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحكم، فقتَل منهم يومئذ ما بين الستمائة إلى سبعمائة، وجمع أموالهم وأمتعتهم، فكانت ألفًا وخمسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألف رمح، وألفًا وخمسمائة تُرس، وجحفة، وأثاثًا وثيابًا، وجمالاً نواضج، وماشية كثيرة[33].

وقد قسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الأموال، مع نساء بني قريظة وأبنائهم وأرضهم على المسلمين، بعد أن أخرج منها الخُمس، وبعث سعدَ بن زيدٍ الأنصاري ببعض سبايا بني قريظة إلى نجد، فَابْتَاع له بهم خيلاً وسلاحًا؛ ليزوِّد بها جيش المسلمين؛ حتى يزداد قوة واستعدادًا.

وهكذا لقي يهود بني قريظة ما يستحقون جزاء غدرهم وخيانتهم، وصدق فيهم قول الله تعالى: {﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب : 26 - 27].
*********************
[1] انظر: ابن هشام 3/ 169 - 189، طبقات ابن سعد 2/ 37 - 40.

[2] الطبقات 2/ 41.

[3] الطبري 2/ 552.

[4] ابن هشام 3/ 190 - 194، طبقات بن سعد 2/ 40 - 42، الطبري 2/ 540 - 555، حياة محمد؛ لهيكل 308 - 312.

[5] بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة؛ الطبقات 2/ 44.

[6] الطبقات 2/ 43.

[7] ابن هشام 3/ 114.

[8] حياة محمد؛ لهيكل، ص 331.

[9] طبقات ابن سعد 2/ 47، الطبري 2/ 566.

[10] البداية والنهاية 2/ 95 - 96، الطبقات 2/ 50 - 51.

[11] ابن هشام 3/ 220.

[12] الجَشيشة: طعام يصنع من البُرِّ الذي يُطحن غليظًا، وتُسميه العامة دشيشًا.

[13] أحفظه: أغضبه.

[14] طامٍ: مرتفع، يريد كثرة الرجال.

[15] الجَهَام: السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه.

[16] هذا مثلٌ، وأصله في البعير يستصعب عليك، فتأخذ القرادة من ذِروته وغارب سَنامه، وتَفتل هناك، فيجد البعير لذةً، فيأنَس عند ذلك، فضرب هذا الكلام مثلاً في المراوضة والمُخاتلة.

[17] ابن هشام 3/ 220 - 221.

[18] يشيروا تعريضًا.

[19] الطبقات 2/ 48.

[20] الطبقات 2/ 53، البداية والنهاية 2/ 111.

[21] كالبوكم: اشتدوا عليكم.

[22] ابن هشام 3/ 223، الطبقات 2/ 53.

[23] خذِّل عنا: ادخل بين القوم حتى يخذل بعضهم بعضًا.

[24] ابن هشام 3/ 229 -231، الطبري 2/ 578 - 579.

[25] البداية والنهاية 2/ 114 .

[26] الطبري 2/ 580.

[27] حياة محمد؛ هيكل، ص 337.

[28] ابن هشام 3/ 252 - 253.

[29] ابن هشام 3/ 234.

[30] الطبري 2/ 582.

[31] ابن هشام 2/ 240.

[32] الأَرْقِعة: السموات.

[33] الطبقات 2/ 54.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ألعاب زمان

قد يستحقر البعض أساليب اللعب زمان . ولكن بشئ من الإنصاف يمكن أن نعدد من المزايا التى فى تلك الألعاب بما يصعب حصره . وهنا نترك لكم ف...